السينما والتغيير - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

السينما والتغيير

  نشر في 30 يوليوز 2019 .

عندما تشاهد أحد أفلام الأربعينيات و الخمسينيات الأمريكية، ربما تفاجأ بما تظهره بعض هذه الأفلام من سمات مجتمعية فائقة المحافظة، بل والرجعية الشديدة أحيانا في بعض النواحي التي قد لا نجدها في الطبقات الأرستقراطية، بل وعند بعض الطبقات الأدني منها في مجتمعاتنا الشرق الاوسطية، في تلك الآونة، وربما يرجع هذا لسطوة الثقافة الدينية الإنجيليكانية في أمريكا، وعزلة أمريكا آنذاك نسبيا عن أوربا، فمثلا هناك فيلم أعده من أجمل الأعمال الرومانسية التي شاهدتها من أفلام هذه الحقبة اسمه "كل هذا تبيحه السماء all this heavens allows " للنجم الوسيم روك هدسون، والنجمة جين ويمان و هو يعرض للنقد الشديد والتجريح الفظ الذي تعرضت له أرملة مازالت لم تتخط مرحلة الشباب لمجرد الشك في وجود صلة عاطفية أفلاطونية بينها وبين شاب يصغرها في السن، وكان قرارها بالزواج منه محط لوم ورفض شديدين من كل المحيطين بها.

هناك فيلم آخر اسمه pinky من أهم الأفلام الني تعرضت لقضية العنصرية تعاني فيه الفتاة البيضاء، لمجرد أن جدتها سوداء البشرة، أي لمجرد أن دمها "ملوث" بدماء السود ، فاضطرت لإخفاء هذا حتي عن حبيبها الذي عندما علم بالأمر في البداية لم يستطع مواجهة الموقف.

والعديد من الأعمال الاخري التي نقلت لنا سواء عمدا أو بشكل غير مقصود كيف كان المجتمع الأمريكي حتي الخمسينيات محافظا في مناح عدة لدرجة التزمت. و لا يسعك إلا الإعجاب بمدي التطور الذي حققه هذا المجتمع بشكل ثوري بدئا من ستينات القرن الماضي التي تفجرت فيها ثورة الشباب في أوربا و أمريكا محاولة سحق كل ما هو قديم ومتعارف عليه وكل ما يمت للتقاليد المحافظة بصلة بل كل ما درج عليه المجتمع الإنساني من نظم تقريبا، واستمرت الثورة الإجتماعية مندلعة في السبعينيات الوجودية ثم عادت المحافظة تطل برأسها من جديد في الثمانينيات، لكن بعدما كانت الثورة قد أرست بالفعل دعائمها و أصبح للتيار الليبرالي ثقله وقيمه التي تناطح القيم المحافظة رأسا برأس، وتتحداها في الشارع وعلي موائد صنع القرار، ومن خلال المنصات الإعلامية والأعمال الفنية، وبين أقصي اليمين وأقصي اليسار يعيش رجل الشارع الأمريكي الآن في مناخ من الحرية حلم به أسلافه وحققوه . فبالرغم من أن البعض مازال يعتبر الحرية الجنسية انحلالا، ومازال البعض يحتفظ بموقف غير ودي تجاه السود، وأحيانا تجاه اليهود "بالرغم من أن التيار المحافظ الآن تحول موقفه تجاه اليهود بنسبة مئة و ثمانين درجة، فاتجه للإنحياز لهم بعد تاريخ من الإنحياز ضدهم"، كذلك يصر المحافظون علي رفض زواج المثليين مثلا، وأمور أخري من هذا القبيل . إلا أنها في النهاية مجرد آراء قد تميل كفتها أحيانا إذا ما احتل المناصب السياسية الهامة هناك يمينيون و العكس صحيح . لكن في نهاية الأمر ، قانونيا وسياسيا، الجميع الآن يتمتع بالحرية و بالأمان . لن تجد في مسببات رفض التعيين مثلا لطالب وظيفة أنه أسود، أو يهودي . لن تضطر الأم العزباء لمغادرة القرية بسبب معاملة الأهالي السيئة لها .

والقانون في تلك المجتمعات لم يصنع هو التغيير المجتمعي بل كان نتيجة له . نتيجة لجهود رواد من الناس أنفسهم، استطاعوا إيصال صوت الصواب لغيرهم، و استجاب المجتمع، أي الناس، فاستجاب القانون، وحدث التغيير الهائل في سنوات قليلة.وهو تغيير أنت من هزيع رياحه حتي المؤسسات الدينية فحاولت التوفيق بين عقائدها الثابتة و بينه، بل و تخلت احيانا حتي عن العديد من هذه العقائد.

و كان من أهم أدوات التغيير الأدب و الفن، ممثلا في السينما و المسرح و التلفزيون، الموسيقي و الغناء و الفن التشكيلي و كل أشكال التعبير. فكما رأينا، لم تخش الأعمال السينمائية من تحدي التابوهات العتيدة . فرأينا جريجوري بيك و هو بالمناسبة لم يكن مجرد ممثل لكن كان صاحب رسالة، يتحدي العنصرية بعمله الخالد " أن تقتل طيرا ساخرا to kill a mocking bird "، عن رواية الأديبة هاربر لي بنفس الإسم. و مرة أخري يناقش قضية معاداة السامية أو التعصب ضد اليهود كجنس في فيلمه "a gentleman's agreement " .وله ولغيره أعمال أخري تتناول هذه القضايا وغيرها كحرية المرأة واستقلالها مثلا.

والمقارنة بين السينما في الغرب والسينما هنا من هذه الناحية، بالتأكيد ستكون مضحكة . فباستثناء محاولات جريئة بسيطة من صناع السينما في مصر، سنجد الغالبية العظمي من أفلامنا تنحاز للمحافظة ولا تحمل لواء التغيير، ربما عبرت عنه في حقبتي الخمسينيات والستينيات وبعد ذلك في أعمال متفرقة لكنها لم تصنعه، بل صنعته الأداة السياسية وغيرها من عوامل كانت موجودة بالفعل، كوجود أجانب، واحتلال انجليزي حمل العديد من مظاهر التمدن، تلته الثورة الاشتراكية، والتي حاولت بعث روح تقدمية في المجتمع بكل ما أوتيت من قوة، فشاهدنا أعمالا كرد قلبي الذي لم يدعو للمساواة بين طبقات الشعب فقط بل دعا أيضا، وإن كان بشكل أقل وضوحا؛ لنبذ كل ما هو رجعي، فمثلا عندما تحدث البطل لأبويه مدافعا عن زواجه من راقصة، شبه النظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع إلي بالراقصات بنظرة الطبقة الأرستقراطية لهم كطبقة عاملة علي أنهم بشر من طبقة أدني أو هم دونهم بشرية . ورأينا بعد ذلك أفلاما كمراتي مدير عام مثلا، في مقابل فيلم الأستاذة فاطمة الذي عاد بالمرأة للبيت. أو الخطايا الذي ناقش تابوه "ابن الحرام"، أو "لا تطفيء الشمس"، وغيرها .

لكن كانت السينما عادة لديها حدود لا تتعداها، وهي ما يمكن أن يتقبله المشاهد الشرقي . فهو إن تقبل عمل المرأة في الستينيات، لكنه لا يمكن بحال أن يتقبل مفهوم الحرية الكاملة للمرأة. فالبطلة دائما "عذراء"، ودائما لابد أن تطيع أبويها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتعرض السينما لمواضيع الزواج المختلط مثلا بشكل صريح، أو مناقشة الأديان أو الحرية الجنسية .أو غير ذلك من تابوهات وإن فعلت فلابد أن تتحيز للمعتدل الوسطي في النهاية، وذلك في أفضل الأحوال.

نجد هذا واضحا في الأفلام الاجتماعية الإصلاحية في فترة الثمانينيات مثلا، فمثلا في فيلم "الحكم آخر الجلسة"، نجد الطبيبة والمحامية اللواتي ظهرن في صورة المرأة المستقلة المثقفة القوية، لا يجرأن علي الاعتراض علي تدخل الجد السافر المشين في أخص خصوصيات الزوجة "بوسي" وهو إجهاضها للجنين، إلا لأن الأسرة تحمل ميراثا من المرض العقلي يجعل احتمالات إصابة الطفل بالمرض كبيرة . وجعل الفيلم من هذا المرض المبرر الوحيد لصحة ما فعلته الزوجة . لكن فيما عدا هذا، يبدو وكأنه لا يوجد اعتراض علي أن يرفع الجد قضية علي زوجة ابنه لإجهاضها نفسها !!.

وبالطبع هناك استثناءات، ولكنها قليلة، منها بالطبع أفلام يوسف شاهين . وأعمال أخري متفرقة للتنويريين من صناع السينما، أما في العقود الأخيرة فنجد نماذج قليلة منها مثلا فيلم "ويجا"، والذي كنت أتمني أن يستمر مخرجه علي نفس المنوال، والذي تحدي فيه بصراحة مفهوم الرجل الشرقي عن الفتاة التي لا ينبغي له الزواج منها حتي لو كان علي علاقة بها لأنه لم يكن الرجل الأول في حياتها جنسيا. فعادة ما كانت أكثر الأفلام تسامحا تبرر "الغفران" للفتاة "ذات الماضي المشين" بأنها كانت قد "غرر " بها ! أي وعدها العاشق بالزواج. ونجد في فيلم سعاد حسني "الثلاثة يحبونها" المصير الأسود للفتاة التي تستهين بسمعتها فهي، و ياللا للعار تلهو في حمام السباحة مع أصدقائها الشبان لهوا بريئا، وترقص أيضا ، نجدها في النهاية لا تستطيع قبول الزواج من الشاب المثالي يوسف فخر الدين لأنها قد أضحت "ملوثة"، والمصيبة أنه كان قد تم اغتصابها، فهي حتي لم تمارس الجنس بإرادتها !، كان هذا الفيلم وغيره من انتاج الفترة التي نعدها الآن العصر الذهبي للحرية في مصر و لك أن تضحك علي هذه المفارقة ما شاء لك الضحك.

وكغالبية المصريين قبل الصحوة الدينية الثانية في بداية الألفية الثالثة لم تكن الأعمال السينمائية والتلفزيونية تحتفي بزواج الرجل من امرأة أخري، كان عادة يعد عملا غير مقبول، وخيانة قبل "عائلة الحاج متولي" . والواقع أن أغلب نجوم فن التمثيل لدينا لم تكن لهم مواقف سياسية واجتماعية ثورية . ولا يمكنني إلقاء اللوم علي صناع السينما لدينا، فالسبب الرئيسي في أن الأعمال الدرامية هنا لم تقم بالدور الذي قامت به السينما وغيرها من منابر الدراما في الغرب هو الموقف الجامد للغاية للمجتمع الشرقي . فالناس هم الدكتاتور الأعظم والعقبة الكأداء دائما في وجه التغيير الحقيقي. إذ لا يمكن لا لصانع القرار السياسي ولا مشرع القانون أن يجبر مجتمعا علي قبول قيم يرفضها كل الرفض، فما بالك بصناع السينما؟

عادل إمام الذي كثيرا ما ساير القيم الاجتماعية التقليدية للمجتمعات الشرقية في أفلامه، نجده من ناحية اخري يحاول تحدي بعض تلك القيم في العديد من الأفلام، ففي فيلم المشبوه يدافع عن زواجه من بنت ليل، كذلك في فيلم الحب في الزنزانة والنمر والأنثي، ويدين المجتمع الذي استغل الفتاة لا العكس، وهناك العديد من المشاهد في أفلامه قد لا نلتفت لها لكن مع التدقيق نجد فيها تعبيرا عن إيمان عادل بالحرية الاجتماعية، فمثلا في فيلم الغول والذي يتمحور حول محاربة الفساد والفوضي، أنّ الراقصة الضحية التي أراد الفتي المستهتر "حاتم ذو الفقار الاعتداء عليها" والتي قدمت بصورة بريئة ونقية للغاية ، لم تستخدم مهنتها أبدا في الفيلم بشكل يدينها بل بالعكس فقد احترمها كل شخوص الفيلم بداية من الصحفي الذي استمات في الدفاع عنها وحمايتها حتي الطبيب في مزرعة الغول وكانت مهنتها كراقصة تذكر في الفيلم كأي مهنة . وعادل إمام، بالذات في الفترة التي بدأ فيها يقدم أعمالا جادة في منتصف الثمانينيات والتسعينيات وما تلي ذلك، يهاجم دائما الرياء والتطرف الديني بل ويسخر من المتزمتين ومن بعض الممارسات الدينية الغريبة كالمحلل مثلا في "زوج تحت الطلب" والذي أجده فيلما غاية في الجرأة. ولا شك في أن التيار الديني في تلك الآونة لم يكن قد تغلغل في المجتمع بصورة تجعل من فيلم كهذا مثارا للاستياء، حيث كانت القيم المجتمعية لدي الطبقة الوسطي مازالت إلي حد بعيد أهم من التعاليم الدينية الأصولية وينطبق هذا علي تعدد الزوجات مثلا أو ضرب الزوجة وغيرها من الأمور التي كان يتخذ فيها المجتمع في العموم خاصة في أوساط الطبقات المتعلمة موقفا مستقلا عما جاءت به النصوص الدينية. كما صدق عادل إمام علي حرية الحب، في المنسي، وعمارة يعقوبيان وغيرها. وكان من أبلغ المنادين بنبذ التعصب ضد الآخر في الإرهابي مثلا وحسن ومرقص .

هناك بالطبع العديد من لمحات الحرية التي نجدها في العديد من الأفلام لكنها لم تتجاوز التلميح للتصريح، فإيناس الدغيدي مثلا في فيلم "ما تيجي نرقص" المأخوذ عن فيلم أمريكي تقدم الثنائي المثلي بصورة لا تحمل إدانة بل العكس، علي غير ما تعودنا .

نجد في فيلم "كشف المستور" انحيازا لشخصية البطلة التي بالرغم من قيامها بتقديم خدمات جنسية للشخصيات السياسية المعادية كجزء من دورها في جهاز المخابرات إلا أنها لم تتوار أو تنسحب أو تحاول مغازلة المجتمع بادعاء التدين كإحدى زميلاتها السابقات، فقدم لنا الفيلم هذه المرأة "السافرة المتبرجة" علي حد تعبير إحدى الشخصيات، كشخصية قوية صاحبة مبدأ تمثل الجانب الخير في الرواية. وهو ما قدمته نفس النجمة بتيمة أخري في فيلم الراقصة والسياسي. مثل هذه الأفلام كنت أتمني وجود عدد أكبر منها إذ عندما تشاهدها تشعر بالدهشة وبالانتعاش والإعجاب وأحيانا ببعض الأمل.

من الامور الملحوظة أيضا الخشية التي توارثها معظم صناع السينما أجيالا بعد أجيالا من التصريح بلفظ "شيوعي" ! كم مرة تذكر أنك استمعت لعبارة ذكرت فيها هذه الكلمة صراحة علي لسان أحد أبطال الأفلام ؟ غالبا ما كان يشار إليهم "بالمشتغلين بالسياسة" أو بالتقدميين، أو لا تتم تسميتهم علي الإطلاق وإن حدث، فكان التلفزيون المصري عادة ما يحذف العبارة عند عرضه للفيلم . وبالطبع جاء هذا من التضييق السياسي الذي عاني منه اليسار في العهود المتتالية لذلك لا نستطيع إلقاء تبعات هذا التعتيم علي صناع الأفلام .


  • 3

   نشر في 30 يوليوز 2019 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا