روي عن بعض الصحابة أخبار في شأن إبليس والجنّ تخالف ما نصّ عليه القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن عبدالله بن عباس أن الجن من الملائكة، وأنهم كانوا خزان الجنة ولذلك سمو بالجِنّ لأنهم خزان الجنة!
وفي موضع أخر عن ابن عباس أن الجن خلق من الملائكة يعمرون الأرض!
وقال ابن عباس عن ابليس، أنه كان رئيس الملائكة خزان الجنة، وأنه مع ما ذلك كان رئيس ملائكة السماء الدنيا، فدعاه ما أتاه الله من السلطان إلى الكبر .
فجعل سبب فسقه ما أتاه الله من سلطان!
وعن ابن عباس أيضا في رواية أخرى أنه كان من الجن الذين يعمرون الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، فذلك دعاه إلى الكبر!
فجعل سبب فسقه ما أتاه الله من العبادة والعلم!
وأما عن اسمه, فروي عن ابن عباس أن اسمه عزازيل! وفي رواية أخرى عنه أن اسم ابليس الحارث!
وقد حاول البعض الجمع بين الروايتين فزعم أن عزازيل معناه بالعربية: الحارث! وشتان بين اسم عزازيل وبين اسم الحارث الذي لا يمكن الجمع بين معنيهما بأي وجه من الوجوه!
فعزازيل، كلمة مكونة من شقين: عزاز وإيل، فأما إيل، فمعناه الله، وأما عزاز، فهي مشتقة من العزّة، فهذا الاسم يعني "تقريبا" عزيز الله أو العزيز بالله , بينما الحارث معناه: المكتسب.
ومن ذلك أيضاً ما روي عن ابن عباس، من أن أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضًا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره، نحو ذلك عن عبدالله بن عمرو ولم يذكر في الخبر إبليس، وهي بلا شك من الأخبار التي نقلها عن الزاملتين التين وجدهما بالشام، من كتب أهل الكتاب.
وزعم الراوي عن ابن عباس، أن ابن عباس زعم أن الجن قسمان: قسم خلقوا من نار السموم، وهم إبليس ومن معه من الجن، وهؤلاء خزنة الجنة! وقسم خلقوا من مارج النار، وهم سكان الأرض، فأفسد سكان الأرض وبغوا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الجن السماوي، فقتلوهم واجلوهم إلى جزائر البحور!
ثم يروون عن ابن عباس أيضاً أنه قال بأن إبليس لم يكن من أهل السماء، بل كان من الجن الذين يسكنون الأرض، وكان من أشد الخلق اجتهاداً في العبادة!
كل ذلك وراه الطبري في تاريخه، ونقله عنه غيره.
وجميع ما سبق باطل، من وجهين:
الأول: من جهة الإسناد، فلا يصح عن عبدالله بن عباس في ذلك خبر.
والثاني: من جهة المتن، فمتن هذه الروايات معلول من جهتين:
الأولى: تخبط هذه الروايات، وتعارضها تعارضا لا يمكننا معه الجمع بينها، يدل على بطلانها، فحتى لو صح إسنادها عن ابن عباس فهذا يفيد قطعا أن ابن عباس رضي الله عنه لم يتلق هذه الأخبار من مشكاة النبوة وإلا لم توجد كل هذه التناقضات التي لا يمكن الجمع بينها، وأنه في الحقيقة إنما نقلها عن أهل الكتاب بما فيها من اختلاف وتناقض من باب الرواية عنهم
والثانية: مخالفتها الصريحة لما ورد في الكتاب والسنّة، مخالفة لا يمكننا معه الجمع بينهما
فقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه العزيز، في سورة الأعراف، مخبرا عما قاله له إبليس، عندما رفض السجود لآدم: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وقال تعالى في سورة ص: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) فأخبر عدو الله أن الله ابتدأ خلقه من نار كما ابتدأ خلق آدم من طين, وأن عدو الله رأى أن النار التي هي أصل خلقته أفضل من الطين التي هي أصل خلقة آدم, مما دفعه إلى الكِبر ومعصية ربه عز وجل.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنه قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". فميّز النبي صلى الله عليه وسلم بين خلق الملائكة وخلق الجنّ.
فأبى أهل الأهواء إلّا أن يدعو كتاب الله وسنة نبيه خلاف ظهورهم، ويأخذوا بما ورد في كتب أهل الكتاب!
ومنها نعلم أن سبب وجود ابليس في الجنة هو نفس السبب الذي جعل آدم يوجد فيها، وهما كونهما أول خلق من نوعيهما، وأنه كما امتحن آدم بتحريم الأكل من الشجرة أمتحن ابليس بالسجود له، وأن الغاية من خلق ابليس هي الغاية من خلق آدم عليه السلام، وهي العبادة المقرونة بالابتلاء والامتحان ثم الحساب، ثم الجزاء، فإما الثواب أو العقاب.
وأن اسم ابليس الحقيقي لا يعلمه إلا الله، ولكن اسمه اليوم الذي سماه الله به ابليس ليس له اليوم اسم غيره.