عبد الله شقرون لم يَمُت يا سادة !
الإبداع والتّجديد سُنَّة كونيّة
نشر في 08 نونبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
رحم الله عبد الله شقرون ورزق أهله وذويه الصّبر والسّلوان، الشّاب المغربي ابن مدينة تطوان الجميلة، الذي عرف عنه طموح غير عادي وهمَّة تكاد تكون منقطعة النّظير بين أقرانه. الطّفل العصامي الذي اهتدى لرسالته في الحياة في سنّ لا تكاد تتجاوز الـ 15 ربيعاً، كان تركيزه منذئذِ، ولأكثر من 15 سنة تلتها، على التّكوين الذّاتي الرّصين في مجال الإلكتروميكانيك. مسار غنيّ، كانت حصيلة الإنجاز فيه أكثر من 31 براءة اختراع محفوظة الملكية الفكرية، كما أخبرني بعض المقرّبين منه.
احترَمْتُ عبد الله بشكل كبير في حياته، وأكنّ له كامل الاحترام وهو بعالم الغيب. كان مثالاً للشّاب المغربي والعربي المسلم الشّغوف بالمعرفة والعلم في إحدى تخصّصاته الحيّة والتي تشهد قفزات طفرويّة متسارعة. فأن تنحدر من أسرة متوسّطة اجتماعياًّ، وتجتاح مراحل التّعليم الابتدائي بأداء جدّ متوسّط ثم تَتِيهَ خلال مراهقتك وتحصد من الفشل الدراسي والأكاديمي الشيء الكثير؛ ثمّ تقرّر بعد كلّ ذلك وبإرادة الإنسان الحرّ أن تستنهظ الهمّة وأنت تعيد ربط علاقتك بمجالات اهتمامك في الصّبا في بحث عن ماهية ما يمكن أن تتخصّص فيه لتقدّم إنجازاً وقيمة مضافة لهذا الوجود خلال فترة تواجدك النّشط على سطح هذا الكوكب الجميل؛ أقول أنّ ذلك وذلك وحده يُعَدُّ من أكبر الإنجازات على المستوى الذّاتي، من حيث دلالته العميقة في التّصالح مع الذّات وفهم لجوهر البناء الكوني العظيم الذي يشكّل فيه الإنسان جزءاً ليس بالهَيِّن.
بموازاة ذلك، أستأذنك صديقي القارئ الكريم في وضع الأصبع على مكانٍ حسّاسٍ جدّاً (من وجهة نظري الشّخصيّة) في طريقة تعامل عبد الله مع إنجازاته ومنهجيّته في التسويق لها. وذلك من خلال إشارة لمعطيين هامّين يندرجان كالآتي:
مع أوّل براءة اختراع سجّلها عبد الله بالمملكة المغربية بخصوص محرّك الطّائرة النفّاثة الاقتصادي متعدّد الاستعمالات، انهالت عليه عروض مغرية من كلّ حدب وصوب لشراء الحقوق الفكرية للبراءة، فلم يستجب عبد الله لأي عرض منها لاعتبار رئيسي؛ تمثّل في يقينه من استغلال اختراعه في المجال الحربي من قبل الجهات متبنّية العرض. متمسّكاً بأمله في تبنّي دولته لاختراعه وحسن استثماره للنّهوض بمجال صناعة الطّيران في قفزة طفرويّة بدل الاكتفاء باستقبال وحدات التّصنيع المُرَحّلَة لشركات دولية فاعلة في ذات النشّاط الصّناعي؛ إلاً أنّ عبد الله رغم لجوئه إلى المسؤولين عن القطاع في الحكومة المغربية ومسؤولين آخرين ذووا نفوذ وسلطة تقريرية؛ أكثر ما تمّ وعده به هو النّظر في الأمر لاحقاً.
بين التّسويف الحكومي في تبنّي طموح عبد الله وحسن استثماره، الذي كان وراءه ضعف في البعد والدّقّة الاستراتيجيّين، لانشغال الحكومة بالإنجازات قريبة الأجل والتي تراها ذات الأولويّة الرئيسيّة، وبين ضغط العروض المغرية؛ لجأ عبد الله (رحمة الله عليه) إلى أسلوب "أَسْلَمَةِ" منهجه وسعيه الإبداعي، مُصرّحاً بافتخار كلّما سمحت الفرصة بذلك أنّ ما يقوم به (مُسْتَنْهِضاً هِمَمَ أقرانه) عبارة عن امتداد لإنجازات أجدادنا من العلماء العرب والأعاجم المسلمين؛ ممّن ذاع صيتهم عبر التّاريخ وكانت إنجازاتهم تمهيداً للثّورات الزراعية والصّناعية بالقارّة الأوربية ثم ما كان لذلك من أثر في تحقيق النّهضة المعرفيّة والتّكنولوجيّة بدول الغرب لاحقاً.
مبدئيّاً، لست لا ضدّ ولا مع الافتخار بإنجازات السّلف. كَوْنِي أؤمِن وبقوّة بقدرة الإنسان على الإبداع، الابتكار، الإنجاز، الاختراع وتقديم قيمة أو قيم مضافة على مدار سنوات حياته؛ في أيّ حقبة تاريخيّة وُجِدَ فيها ومهما كانت صعوبة الحيّز الجغرافي الذي ينتمي إليه وقساوة ظروفه، كما لا أنكر ما قدّمه السّلف من إنجازات مُبهرة في حينها وأمتنّكثيراً لعطائهم وموسوعيّة بحثهم؛ إلاّ أنّي أعي جيّداً أنّ ذلك عهد قد ولّى وانقضى رضي من رضي وكره من كره، وأؤمن بلا جدوى الرجوع الدرامي تاريخيّا إلى تلكم الحقبة كلّما تمّ ذكر مسلمي هذا العصر وإنجازاتهم، لمقارنة الأداء والتّحصيل المعرفي والإبداعيّ بين الجيلين.
من وجهة نظر ثانية، وباعتماد مفهوم دقيقق في نظرية " الترانسيرفيغ" للعلاّمة الرّوسي " فاديم زلاند "؛ الذي اعتبر أنّ كلّ منظّمة أو تجمّع بشري سواءً أكان ذو طابع اجتماعي، سياسي أو اقتصادي له وجه خفيّ في العالم الطّاقي اللامرئي يشكّل ما أطلق عليه " النَّابِض" أو "البندول" (كترجمة حرفية لكلمة Pendule الفرنسيّة)، ودلالته المبسّطة في العلوم الفيزيائية: ذلك الجسم المعدني المستقيم، المثبّت طرفه الأعلى بنقطة ثابتة وطرفه السّفليّ في حركة دائريّة أو شبه دائرية، ذهاباً وإيّاباً، بحيث كلّما دفعته نحو أحد المنحيين يساراً أو يميناً تحرّر ليعود في حركة دائريّة حرّة متجاوزاً نقطة التّوازن إلى المنحى المعاكس، وهكذا دواليك حتّى يتّم إخماد حركته تلك بواسطة قوّة خارجيّة أو بشكل تلقائيّ خلال بُرْهَةٍ من الزّمن. إذ يتميّز "النّابِض" الطاقي باستقلالٍ بعد تَشَكُّلِه، ثمّ يبدأ سعيه للعيش من خلاله امتصاص الطّاقة، مهما كان منحى نموّه أو طبيعة عيشه؛ خَيِّرَة وداعمة للرّخاء والتّطوّر البشري الإيجابيّ أم كانت له غاية أخرى. سواءً أ كان مصدر الطّاقة "المنتمين له" أو "المعارضين" و "المقاومين له".
الفخّ الذي سقط فيه عبد الله (من حيث لا يعي ذلك؛ غَالِباً) هو فخّ "المقاومة" ومجابهة "النّابِض الطّاقي" المتمثّل في القطاع الحكومي المسؤول عن تخصّصه أو مختلف الشّركات متعدّدة الجنسية السّاعية لاحتضان مشروعه؛ بالإنجازات العظيمة التّي حقّقها مُفَاخِراً. وهو ما تعتبره نظريّة الـ " Transurfing " أيضاً "فائضاً في الاحتمال"، أي أهميّة مبالغ فيها أحدَثَت فائِضاً في الطّاقة؛ تجعل " قوى التّوازن " تتدخّل لتعيد الوضع لتوازنه الطّاقي البدئي؛ وغالباً ما تكون " قوى التّوازن" متتالية من الأحداث والوقائع تجعل الشّخص المتسبّب في إنتاج " فائض الاحتمال " يحصد نتائج عكس ما كان يصبو إليه تماماً.
في نموذج عبد الله (رحمه الله)، وبتحليل بسيط دون الدّخول في جَدَلِ نظريّة المؤامرة واعتبار وفاته نتيجة تدبير وفعل فاعل، أجد أنّ كثرة تعلّقه بالسّعي على منوال علماء العرب من مسلمي - ما يسمّى في الأدب الإسلامي بــ - "العصر الذّهبي" جعله يُنتِجُ فائضاً من الطّاقة؛ نتج عنه ملاحظته للمفارقة الكبيرة بين واقع الدولة التي ينتمي إليها ورفضه للعروض المقترحة من خارجها، من جهة، وتساؤله المُؤْرِق حول قابليّة تحقيقه لحُلُمِهِ بوطنه الأمّ؛ من جهة أخرى، الشّيء الذي تسبّب في معاناته من ضغط فكري كبير؛ أظنّه - من خلال صدى معاناته طوال أيّامِهِ الأخيرة قبل وفاته - استدرجه لماعاناة داخليّة وهو يرى نفسه وحيداً في دربه، بعد كمّ الإنجازات الذي قدّمها وتمسّكه بوطنيّته وانتمائه الدّيني والإيديولوجي، لا من يلتفت إليه بجديّة من أعضاء حكومة بلده كجهاز تنفيذي؛ ما عدا ذكر بعضهم على صفحاتهم الشّخصيّة بمواقع التّواصل الاجتماعي للقائهم به لمّا زارهم بمكاتبهم الفارهة بالرباط، وهم يرثونه في كلمات مُقتضبَة بعد أن بلغَهُم خبرُ وَفاتِه.
ختاماً، أقول أن عبد الله شقرون لم يمت يا سادة، لا زال موجوداً بيننا. فأنا حين أتذكّر جاري وصديق طفولتي "سفيان"؛ أستحضر فيه إصرار "عبد الله" وهو يُفَكِّكُ الأجهزة الإلكترونية؛ من راديو ومسجّلة صوت وسيّارة إلكترونيّة وغيرها، مذ كان في الخامسة من العمر، التي كانت هدايا أبيه له خلال عطلته السنّوية وهو قادم من الإمارات العربية المتّحدة بعد 11 شهراً من الخدمة العسكريّة، وكلّ شغفه أن يكتشف مبدأ اشتغالها؛ ليؤول به الحال - اختيارياًّ - للّحاق بصفوف مفتّشي الشّرطة بعد مسار أكاديمي متعثّر. كما ترجع بي الذّاكرة لأرى "خديجة"، زميلتي في الدّراسة منذ أوّل سنة بالرّوضة حتّى الباكالوريا وهي تقنع بوضعها الحالي كموظّفة (أو "إطار عالي" كما أقنعوها) بإحدى شركات القطاع الخاص بالدار البيضاء لتؤسس أسرتها وتتلحق بها أمّها للعيش بمكان إقامتها بالعاصمة الاقتصادية، بعد طول مسار من الجدّ والاجتهاد والكدح والعطاء في مسارها الأكاديمي، مُتَوَّجٍ بشهادة " مهندس دولة"، ناشدة بذلك عيشة سليمة متوسّطة. كما هو حال صديق طفولتي "محمد" الذي أنهى دراسته بمعهد الدّراسات البحريّة بالحسيمة، متخرّجاً الأوّل على دفعته بتخصّص الهندسة الميكانيكيّة، ليلتحق بعدها بمعهد الحسن الثاني للزّراعة والبيطرة، بعد حصوله على باكالوريا حُرّة بميزة حسن؛ ويجتهد في الحصول على مركز من بين العشرة الأوائل في الهندسة الطّوبّوغرافية؛ ليسدل لحية مبعثرة منكوشة ويتشدّد في التزامه الدّيني فيخسر كلّ أصدقائه بطريقته الحادّة في التّواصل والأمر والنّهي، بعد أداء أكاديمي عالي المستوى. كلّهم كانت بداخلهم بذرة؛ ثُمَّ أَتْلَفُوهَا حين قرّروا الانصياع والرّضوخ لضغطِ محيطهم واقتناعهم بضرورة السّعي لتحقيق منطقة أمان في العيش الهنيء تحت جناج القطاع الحكومي.
بين يدي لحظتي هذه، أجزم وأنا في يقينِ تامٍّ بوجود أمثال عبد الله من حيث التزامهم وشغفهم بالبحث العلمي والإنتاج المعرفي المُوَاكِبِ لروح العصر سواءً بالمغرب أو خارجه؛ ولهم أقول: اشتغلوا في صمت أعزّائي، ثمّ لا تعقدوا آمالاً على جهات وصيّة مُحَدَّدة لتتبنّى مشاريعكم، فلكلّ مجهود تقدير واعتبار ومقابل ولو بعد حين، واجعلوا أعمالكم بنيّة تقديم منفعة عامة وقيمة مضافة للبشريّة جمعاء، فالإسلام يا سادة أرسله الله للعالمين دون استناء، ولم يجعله رهين رقعة جغرافية محدّدة أو فئة بشريّة واحدة ووحيدة.
استيقظوا يرحمكم الله !
-
Mohamed Boumedieneرجل حر ..