قد يمتلئ القلبُ بعلومٍ شتىً وهو مع ذلك الامتلاء فارغ، وتلمحُ صاحبَه يُعالج أمراضَ القلب لفئامٍ من الناس وهو مازال في أول المرض طالباً للدواء، ومن ظنَّ أن سعادةَ القلب وانشراحَه بغير عمارته بذكر الله فما استقام له طريق.
يقول ابن القيم (وإن في القلب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله).
لا بد أن نعلمَ يقيناً أن ذكرَ الله عزّ وجلّ بالقلب واللسان هو حياةُ القلب و روحُ الحياة، والمتأمل في كلام الله عن الذكر في القرآن يقف وقفةَ إجلالٍ وانبهارٍ لهذه العبادةِ الجليلةِ وذكرِ السياقات القرآنية لها.
خذ على سبيل المثال سياقَ سورةِ الجمعة وكيف أن اللهَ عزّ وجلّ يأمر الناس بترك البيع والشراء بعد الأذان للجمعة، وأمرهم بالسعي إلى ذكر الله والعبادة وعمارة القلب بالتجارة الأخروية ليستزيد القلب سعادة بذكره وبالقربِ منه
يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[سورة الجمعة 9]
ثم يذكر سبحانه وتعالى عند انقضاءِالصلاة وهي من أجل العبادات، وكلُّها أدعية وأذكار يتعبد العبد بها ربَّه ومولاه، يأمره أن ينتشر في الأرض لعمارتها وأن يذكر الله كثيراً في ذلكم الانتشار حتى لاتنقطع صلته بربه، ولتبقى السعادة الأبديةُ في قلبه، وأن يبقى هذا القلب حيًّا بذكره، وليعلم أنه سببٌ في الفلاح في الدنيا والآخرة فقال سبحانه
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة الجمعة 10]
فانظر إلى عظيم شأن هذا الذكر وكيف أنَّه حياةُ القلوب، فمهما اشتغل العبد في أمور دنياه فلا عزيمةَ له على هذه الدنيا، ولا سعادةَ له بين جنباتِها إلا بذكر الله والتوجه إليه.
إلى سياقٍ آخر
وإلى مشهدٍ هو أعظمُ من مشهدِ الجمعة وأكثر منه قربةً وعبادة، ألا وهو رحلةُ القلوب والحجُّ إلى بيت الله العتيق.
كلنا يعلم أنّ الحجَّ كلَّه يقضيه الحاجُّ مابين ذكرٍ لله وصلاةٍ ودعاءٍ وأنواعٍ من الطاعات المختلفة، فأنت من التلبية إلى الذكر ومن الذكر إلى الدعاء ومن الدعاء إلى الصلاة، ومع ذلك كلِّه فإن الله عزّ وجلّ لمّا ذكر يومَ عرفة وهو يومُ تنزُّلِ الرحمات والبركات، ويومٌ يحثو الشيطان على رأسه مما يرى من مغفرة الله لعباده قال سبحانه
( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [سورة البقرة 198]
لمَّا كانت الإفاضةُ من يومٍ فيه العبد أقرب مايكون من ربه، وقد ينشغل مع الإفاضة بشيءٍ من أمور الدنيا من المتاع والتنقل، أمره بذكره والانشغالِ بلهج الألسن تسبيحاً لقدسه ؛ ليبقى القلب ذاكراً له وليبقى حبلُ السعادة به موصولاً،
في جملة مضمونها ( وأعلم أن حياة القلب بذكر الله).
ولايزال الحاجُّ يتقلب بين عبادةٍ وذكرٍ وصلاةٍ ودعاءٍ متنقلاً من مشعرٍ لمشعر حتى يقضي نسك الحج ويفوز بالجائزة الكبرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
فيخرج نقياً من الذنوب أقربُ مايكون من ربه، وهو في خضّم تلكم الفرحة وفي انشغال بتجهيز المتاع للعودة قافلاً إلى أهله، تأتيه الرسالة من رب العالمين أن يلهج لسانه بذكره وأن لاينقطع قلبه عن العمارة بحب الله والاقبال عليه فقال سبحانه
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)
في جملة مضمونها ( وأعلم أن حياة القلب بذكر الله).
ثم دعني أيها القارئ الكريم أتجاوز سياقاتِ القرآن الكثيرة لعبادة (الذكر)، وأقف على سياقٍ عجيب، يأسر القلب، ويسح الدمع، وتخشع له الجوارح، وتخرس له الأفواه.
سياقٍ فريدٍ لا أجمل منه ولا أبهى، خصَّ الله به الذاكرين من بين العباد، أكرمهم فأجزل سبحانه العطاء، وأغدق عليهم بفضله النعماء،
يقول سبحانه ( فاذكروني أذكركم)
يالله...!!
من قلوب ذكرت الله فذكرها الله، أي سعادةٍ ترجو وأي فرحٍ تريد بعد هذا العطاء،
يذكرك ملك الملوك، أيها العبد العاصي المملوك.
ما أعظم الأجر مع قليل من العمل.
أتى رجل أبا مسلم الخولاني رحمه الله فقال له: أوصني يا أبا مسلم، قال: اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة، فقال: زدني، فقال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً.
وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى، فقال: أمجنون صاحبكم هذا، فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالمجنون يا ابن أخي، ولكن هذا دواء الجنون.
حدث نفسك بوردٍ من الذكر تلزمه،
وأجعل في قلبك عَمَاراً يذكِّرك بالله لاتعدمه،
فهو زادٌ للمسير
وقربة إلى العلي القدير
يارب نسألك قلوباً وألسنة لك ذاكرة
-
علي عسيريشغوف باللغة العربية، أميل للقراءات الفكرية والتأصيلية.