كيف تصنع انقلابًا عسكريًا ناجحًا؟
رؤية معاصرة لفيلم «الأسد الملك»
نشر في 19 ديسمبر 2017 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
ومن منا لم يشاهد فيلم الأسد الملك؟ ومن منا لم ينبهر بالأداء الصوتي لنسخته المصرية، وبالأخص كوميديا محمد هنيدى المبهجة (تيمون)، وجزالة عبد الرحمن أبو زهرة المبدعة (سكار)؟ ومن منا لم تأسره الرسومات الجميلة والأحداث المشوقة الممتعة؟ ولكن من منا انتبه إلى أن الفيلم يؤرخ لقصة انقلاب عسكري كامل من بدايته إلى نهايته؟!
الفيلم بالفعل يسطر لنا بدقة مدهشة وبسرد أكاديمي رائع القصة الكاملة لانقلاب عسكري نموذجي قام به (سكار) ضد الحاكم الشرعي (موفاسا)، ويرسم خريطة مفصلة تصلح لتكون دليل إرشادات لكل من يريد عمل انقلاب عسكري ما أو إسقاط آخر!
وفى الفيلم – كما فى الحقيقة – مرَّ الانقلاب بثلاثة مراحل متتالية: القيام، والحكم، والسقوط؛ وسرد الفيلم لكل مرحلة وقائعها وبيَّن مقوماتها وخصائصها، وسنبدأ هنا بالحديث عن المرحلة الأولى.
المرحلة الأولى: قيام الانقلاب
كي يقوم أي انقلاب عسكري ينبغي أن تتوفر له ثلاثة مقومات رئيسة: بواعث وعناصر وخطة، فإذا ما توافرت تلك المقومات أصبح قيام الانقلاب مؤكدًا، وارتهن نجاحه أو فشله فقط بمدى جودة وقوة تلك المقومات.
بواعث الانقلاب
للانقلاب العسكري بواعث كثيرة، قد يكون بعضها أخلاقيًا، مثل تجبُّر النظام الحاكم وطغيانه أو فساده وتفريطه، وبعضها قد يكون غير أخلاقي، مثل الطمع في الحكم أو العمالة لآخرين.
وقد تبنَّى الفيلم أبسط تلك البواعث على الإطلاق وأكثرها احتمالية، فكان طمع (سكار) في الحكم، خاصة بعد فقده ولاية العهد بميلاد (سيمبا) هو الحافز الرئيس للانقلاب.
وبالرغم من أن الطمع عادة ما يكون بحاجة إلى الاستقواء ببواعث أخرى ليبرر الانقلاب، إلا أن الفيلم أظهر الحاكم (موفاسا) بمظهر يكاد يكون مثاليًا، فهو القوى العادل الحكيم المحبوب من رعيته المدعوم بعشيرته؛ في رسالة واضحة بأن الطمع إذا تملك من النفوس كان كفيلًا وحده بإطلاق نفير الانقلاب، وأن الحاكم مهما امتلك من أسباب القوة والاستقرار فقد لا يصمد أمام مكر الماكرين!
عناصر الانقلاب
بالطبع كان العنصر الرئيس في هذا الانقلاب هو (سكار)، قائد الانقلاب نفسه، وكانت عدته في هذا كما قلنا هي الطمع وسلاحه المكر، ولكن الطمع والمكر لن يغنيا عنه شيئًا أمام حاكم كـ(موفاسا) وعشيرته من الأسود، فكان لابد له من عشيرة تكون سدنته ورجاله.
وسدنة الانقلاب ينبغي أن تمتاز بالشراسة والعنف، وأن تتصف بالخسة والوضاعة والدونية وبعض الغباء، كما ينبغي أيضًا أن تكون لها أطماعها الخاصة؛ وقد وجد (سكار) ضالته فى عشيرة الضباع، تلك التي تعيش خارج حدود (أرض العزة) ولا يمنعها عن الفساد والإفساد، إلا (موفاسا)؛ وقد أوجز فى وصفها قول الصغير (سيمبا) على لسان (زازو) الحكيم بأنهم: «حرامية وأغبيا وعندهم جرب وأنيميا!» وما قاله (سكار) نفسه وهو ينعي حظه بهم: «أنا محاط بشلة متخلفة»!
فذهب إليهم (سكار) وأغراهم بمعاونته على الانقلاب، فحرك أطماعهم ونفث في حقدهم واستحضر شراستهم، وذلك بخطبة غنائية رائعة لخصتها إحدى الجمل الواردة فيها: «هفرش لكوا المستقبل لحمة، أول ما أتلايم على القمة»! والتي تشير بوضوح إلى نوع وطبيعة هذا الحلف الجديد، حلف المصالح والأطماع.
ولكن حتى باجتماع (سكار) مع سدنته من الضباع مازالت الكفة تميل لصالح الحاكم (موفاسا)، ومازالت كفة الانقلاب بحاجة إلى ثقل قوي ليحدث التوازن، وهنا قرر (سكار) بعبقرية مدهشة أن يستخدم القطيع!
والقطيع هو الشيء الوحيد في الفيلم الذي ظهر على طبيعته؛ فبالرغم من ظهور كل الحيوانات تتكلم وتفكر وتغني وتشارك في مراسم تنصيب (سيمبا) وليًا للعهد، ظهر القطيع بحالته البهيمية البدائية، عددًا مهولًا من الجاموس الذي يأكل ويشرب وفقط! وحتى عندما قرر (سكار) اتخاذ القطيع كقوة ضاربة للانقلاب لم يذهب إليه ويعقد معه اتفاقًا كما فعل مع الضباع، وإنما اكتفى باستخدامه وتوجيهه من بعيد.
وأكاد أجزم أن القطيع إلى وقتنا هذا لا يعرف شيئًا عما حدث، ولا يدري من الأساس أن ثمة انقلابًا عسكريًا قد قام وانتهى، وأنه هو من كان قوته الضاربة! وهذه إشارة غاية في الوضوح إلى طبيعة القطيع وحقيقة دوره في المعركة.
خطة الانقلاب
والآن وقد اكتملت للانقلاب بواعثه وعناصره، لم يعد ينقصه إلا خطة محكمة تضمن النجاح بأقل الخسائر (إن لم يكن بلا خسائر على الإطلاق)، وبالفعل خرج (سكار) بخطة عبقرية مدهشة تصلح لتكون نموذجًا يحتذى به؛ استطاع بواسطتها تفكيك نظام الحكم القوي لـ(موفاسا) واستدراج (موفاسا) نفسه والقضاء عليه والحصول على الشرعية في ذات الوقت! وإليكم الخطة بالتفصيل:
استدراج الحمقى لساحة المعركة
كان من المحال مواجهة (موفاسا) وعشيرته في أرض العزة بشكل مباشر، فكان لا بد من الاستدراج، وكان من المحال أيضًا أن يتم خداع واستدراج (موفاسا) الحكيم المتمرس، فكان الحل في استدراج الحمقى من عشيرته؛ وكان الصغير (سيمبا) بطفولته وسذاجته صورة مجسمة للحماقة؛ فأوعز إليه (سكار) بالخروج من أرض العزة، وأغراه بالشجاعة والبطولة ليوجهه إلى مسار القطيع.
وهنا يضرب لنا الفيلم مثلًا لكل الحمقى من سدنة الحاكم وعشيرته بأنهم أطفال حتى وإن كبروا، وأن اندفاعهم لخوض معارك وهمية وإظهار بطولة زائفة هو الثغرة التي قد يُؤتي منها نظامهم كله!
إثارة وتوجيه القطيع
في نفس الوقت قامت عشيرة الضباع بإثارة القطيع وتوجيهه إلى حيث يتواجد (سيمبا) وما أسهل إثارة القطيع! فَفَعَلَ القطيع ما هو مجبول على فعله؛ هاج وانطلق بقوته البهيمية الكاسحة لا يلوي على شيء.
الانفراد بالحاكم وعزله عن سدنته
وعندها ترك (سكار) (سيمبا) الأحمق يواجه مصيره وانطلق من فوره إلى (موفاسا) يستصرخه وينادي فيه عاطفة الأبوة ومسئولية الحاكم لينقذ (سيمبا)؛ ففعل (موفاسا) ما هو مجبول على فعله أيضًا؛ انطلق وحده من فوره لإنقاذ صغيره لا يلوي على شيء هو الآخر!
اصطدام الحاكم بالقطيع
ويقفز (موفاسا) وسط القطيع الهائج، ويتمكن من إنقاذ (سيمبا) بالفعل، ولكن كان من المحال أن ينجو من القطيع. دهسته الأقدام البهيمية الهائجة وهي لا تدرك أى شيء، لا تدرك أن الذي تحت أقدامها هو (موفاسا) الحاكم العادل القوي الذى يحافظ لهم على المرعى ويمنع عنهم الأذى، لا تدرك أنها تضع مراعيها كلها على طبق من فضة وتسلمها للضباع!
الإجهاز على الجريح
مضى القطيع لحاله وترك (موفاسا) وحيدًا جريحًا منهكًا لا يقوى على الوقوف على قدميه، فلم يحتج الأمر حينئذ من (سكار) – على ضعفه – إلا ضربة واحدة ليخر على أثرها (موفاسا) صريعًا.
التخلص من الورثة الشرعيين
ثم أوعز (سكار) إلى الضباع بقتل (سيمبا)، فانطلقت الضباع خلفه لتقتله، غير أنه تمكن من الهرب، وساعده على ذلك رعونة الضباع وضعف هِمَّتها، فهم قبل كل شيء ليسوا أصحاب قضية ولا مبدأ، فعادوا إلى (سكار) معلنين كذبًا تنفيذ مهمتهم وقتل (سيمبا) (ولي العهد).
وهنا ينوه الفيلم إلى أن عناصر الانقلاب مهما بدت عنيفة وحاسمة ومتراصة، إلا أنها – لا مفر – تاركة فجوات كلما تقدمت، وأن تلك الفجوات قد يخرج منها فيما بعد ما ينسف الانقلاب كله!
ادعاء الأسى وتحمل المسئولية (الشرعية المكذوبة)
ثم انطلق (سكار) عائدًا إلى أرض العزة، ليَمْثُل أمام عشيرة الأسود باكيًا الحاكم (موفاسا) وولي العهد (سيمبا)، ومؤكدًا أنه في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أرض العزة، سيتقدم بالرغم من الهموم والأحزان؛ ليتحمل المهمة، ويمارس دوره المقدس في قيادة الرعية، ليعلن بذلك انتصار الانقلاب، ويرسم ملامح ما بعد الانقلاب بعبارة خطابية بليغة وبصوت جزيل آسر: نبدأ معًا فجر عهد جديد، تتعايش فيه الأسود والضباع؛ نتقدم معًا نحو الانتصارات والمستقبل الزاهر.
وبهذا تنتهي المرحلة الأولى من مراحل الانقلاب بنجاح (مرحلة القيام)، وتبدأ مباشرة المرحلة الثانية (مرحلة الحكم) وستكون محور حديثنا القادم بإذن الله.
التعليقات
للأسف كل ما ذكرته في مقالك حدث بالفعل في الحقيقة , يبدو أنه سيناريو متكرّر ينفّذه بالحرف الإنقلابيون في كل مكان .
بالتوفيق و في إنتظار باقي الأجزاء .