أنتشر الجهل في الماضي بسبب غياب التعليم ، فكان القراء والكتاب لايشكلون إلا نسبةً ضئيلة في كثير من المجتمعات العربية، فكانت الرسالة تجوب القرى والنجوع والهجر لتعثر على قارئها " المطوع" أو الفقيه أو القاضي أو رجل أوتي نزراً من العلم ليقرأها لصاحبها ، ولكن رغم ذلك كانت الفطرة سليمة والذكاء وافر والفراسة حاضرة وتحت قاعدة( تعيش الأمة بدون علم لكنها لاتعيش بدون أدب) كانت تلك المجتمعات تبدع في الحكم والأمثال والفصل في مواطن النزاع ، وتبدع في الشعر وتحفظه وتدرك عمق معانيه وتتغنى بجمال الأشياء من اللوز إلى التمر إلى حبوب الذرة إلى عناقيد العنب وماتحمله من رمزيات عميقة ومهذبة تجاه محبوب قريب أو غائب بعذوبةٍ حاضرة وذكاءً جبِّلي وإنتماءً إلى الحفنة الأولى من تراب بواكير الفطرة البشرية، وهم رغم كل ذلك لديهم القدرة والرغبة في التعلم في ظل إنعدام الكوادر وجفاف الموارد.
ومع بزوغ عصر النهضة وإنتشار التعليم تلقفه المتعلمون بشغف وهمة ، وقدمه المعلمون بإخلاص وضمير - ومع إنعدام الملهيات - خرج لنا جيلٌ موسوعيٌ واعٍ بعلم ومتعلم بوعي حين يعتنق فكرة يعتنقها بقوة وثقة لأنه لم يعتنقها إلا عن قناعة معرفية وعمق فكري حتى وإن كانت تلك الفكرة بعيدةً عن الصواب مجافية للحق، فكانت المناظرات والمساجلات في النوادي الطلابية والصالونات المسائية والمعارك الأدبية في الصحافة تدل على ثقافة عميقة ووعي رصين ورصانة فكرية، كل هذه المساجلات كان القراء يتلقفونها تلقف هذا الجيل لطلبات وجبات المطاعم السريعة ولكن يبقى الإختلاف في نتائج المهضوم في المعدة والمهضوم في العقل!
وماذا عن الجيل المعاصر الذي أصبح يحمل في يده وسيلة المعرفة ومفتاحها السحري ؟ فمن خلال محركات البحث يستطيع أن يحصل في عشرين ثانية على أضعاف ماكان تُضرب له آباط الأبل عشرات الليالي والأيام ! ولكن حين ننظر إلى المستوى الثقافي والفكري - إلا ماندر - نجد ضحالة لدرجة تبعث على الشفقة بين تناقل شفهي " وواتسابي" لمعلومات مبتورة عن أصلها ودلالاتها وبداهة عقلية أدت إلى تعطيلٍ تام لأعمال الفكر وتسخيره لمعرفة بواطن الأمور ومكامن الأشياء وما وراء الأحداث ، أما المستوى اللغوي تحدثاً وكتابةً فتترجمه فهاهة لفظية وقصور في التعبير وأخطاءٌ إملائية كارثية رغم وجود الشيخ قوقل الذي يتوسلهم الدخول إليه لتصحيح أي كلمة تستعصي على القدرات الإملائية المتواضعة . وحين نتوقع إرتفاعاً في مستوى الوعي بالشأن العام إجتماعياً كان أو سياسياً - في ظل وجود ثورة معلوماتية عملاقة - نجد الغالبية ضحية بروباغاندا شيلاوية، أو مجرد أمشاج مهترئة في سيكيولوجيا الحشد ، حيث العقل الجمعي الموجه الذي جعل إبداع الفردانية الذهنية مجرد ضيف سَلفي على تكية صوفية، على الرغم من كل الوسائل والبدائل والأساليب التي تتيح للإنسان أن يبحث عن الحقيقة ليجعل لعقله كامل الحرية في أخذ مكانه الذي خُلق له وأن كان الفم مُترعاً بالماء!
نواف بن جارالله