من بين أن نُعلن عجزنا لما ترتضيه لنا آمالنا الكريمة وأن نؤجلَ إعلانه بضماناتِ إيماننا نخوض حربًا هادئة المشهد متّقدة الحال، نتخلى فيها عن قطعةٍ من أرواحنا كى نخوض بها الحرب؛ لأننا لا نريد أن نُعَجّل من أمر القرارِ؛ خشية أن نُصاب فى أحبابنا، فى منْ يأملوا لنا الأفضل.
فأصبحنا من الواقع موضعًا ترضاه لنا الخيبة، بأنّ لنا فى كلِّ أملٍ نرجوه وحبٍ نتمنّاه ودنيا نتطلعُ إليها أن نقولَ لا مِساس؛ لأنّ آمالَنا باتت تخشعُ لصوتِ واقعنا، فإنْ كنا نأمل فقد بُلينا بآمالِنا.
ورغم كل ذلك فإنّا مُرغمون على التغافلِ مأمورون بالتجاوز؛ كي نحافظَ على ما بقي من أرواحنا، يرد فينا الرجاءُ حاجتنا لخوض الحياة كما هى، بمرّها الظاهر أو لؤمها الخَفي؛ لأننا نؤمن بكآبة الواقع ما يحملنا على أن نعيشه هكذا حقيقيين لا كاملين أو مثاليين.
تقسو علينا الدنيا بقدر ما نطمح فيها، أو للحق بقدر ما يأمل فينا أحبابنا؛ فقد بارت عندنا سِلعة الطموح، وطُويتْ بين أكفانِ غُلبِنا، صنعنا من اللامُبالاة طبيبًا تحت التدريب لأعتى معاركنا دموية، لا يحمل معه سوى جرعاتٍ هائلة من المورفين تُغرز فى أرواحِنا؛ كى نفقد الشعورَ باستباحةِ أحلامنا، حتى فقدنا الشعورِ بكل شئ، حتى بكوننا أحياء، فتناسيْنا!!! لا بل نسينا!!! نسينا أننا هنا نحيا بالموتِ البطئ.
أصبحنا غُصّةً فى حلقِ الحياة، فلا هى تبتلِعنا فى ترابها فتُسلّمنا إلى الأبدِ ولا هى تلفِظُنا فى الهواءِ نتنفس، أشدُ ما يُبكينا هو ما يجب أن نكون فيه أمام ما يظنّه فينا الآملون ويتمناه لنا الطامحون وليس أمام أنفسنا؛ فقد عقِلنا عن غبارِ المحيط طاقةَ الرضا التى تُعيننا على خوضِ النزالِ على أيّةِ حال.
وسبحان اللّٰه رب البلاءِ ورب المِنح، كلّ هذا السوادِ يُمحى بشئٍ ما فى النفسِ كما وصفه الحبيب فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ ، كَانَ خَيْرًا "، بدون مزايداتٍ هذه هى معجزة الإيمان، عندما تبتلِعك آيةٌ فى سرِّ أسْر القرآن وسيادته على النفس فتشعر بمدى ضئالتك أنت والدنيا سواء أمام حرفٍ واحدٍ منه، ليس الأمر فى تحقير ذواتِنا وأحوالنا إنما الأمر فيما يتركه لنا هذا الشعور بهوانِ كلِّ ما نمرّ به أمام ادراكنا بأنّ هذه الصراعاتِ توّصلُنا إلى الله.
بواعث الإيمان فى دواخلنا هى منْ تُنبّهنا لفتيلِ الشمعةِ الذى يبدّد نورُه ظلامَ ما حوله، فيأوينا الحزنُ إلى ركنٍ شديد تُضاء فيه خطواتنا إلى الله، يذهب بأيدينا وأبصارنا إليه، عندما ندرك أنّ الألم أسلمُ من الابتعاد وألا نتكبر على قدرنا.
الشعورُ بالإنتقالِ من سوداوية الحال فى النفس إلى استسلامها باستحضار الخير مع استدامة السير إلى الله -سواء أدركناه أو لم ندركه- أكبر من أن تصل إليه بعض الكلمات أو تصفه بعضٌ من أحداثنا المارة، والأهم هو كون هذا الإنتقال عجيب فى أمره؛ لأنه سهلٌ ومستحيلٌ فى آنٍ واحد بقدرِ ما يعنيه قول الحبيب(وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ)، فيكفينا أن تكون محاولتُنا فى أننا نؤمنَ بالخير على أيةِ حالٍ هى عينُ الإيمانِ؛ لأننا أكثر حماقة من أنْ نُدرك غايةَ الحكمةِ فى ترتيبِ اللّٰه لنا، وأعجز مِن أن نسترق السمعَ وما غاب عنّا.
وهنا نأتى من حيثُ ما بدأنا وقررنا أن نؤجل إعلانِ عجزنا، فكما قال العارفون: أنت مِن توقّعِ المصيبة فى مصيبة، ومن ترقّبِ الفقرِ فى فقر، لذا فقد قررنا أن نتوسمَ فى حُزن يومنا بُشرى صباحِنا، ونستعينَ بآلامِ ليلِنا على رجاءِ الراحةِ فى غيْبِ فجْرِنا، وأن نجعل من فُسُحاتِ أرواحِنا بلاءًا على يأسِنا، ونؤمنَ بأننا ما دُمنا نفعلُ ما يجبُ منّا فى غيرِ مُواربةٍ مع اللّٰهِ فلا تثريب علينا اليوم فى دنيا شئننا.
........الأمر كلّه فى أن نعى أنّ ما يُعرقل سعينا إلى ما نطمحُ إليه هو ما يوجِبُ علينا سعينا هذا ويضمنُ لنا ثوابَ جُهدِنا سواء وصلنا أو لم نصل.
-
عبدالرحمـٰن علوشهايل