العودة المدرسية في تونس.. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

العودة المدرسية في تونس..

بأي حال عدت يا عيد؟

  نشر في 13 أكتوبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

راهنت الدولة التونسية الحديثة على مجال التعليم برفع شعار "مجاني اجباري موحد" للقضاء على حالة الأمية و التخلف الاقتصادية و الاجتماعية الثقافية التي زادها الاحتلال الفرنسي تخلفا و أمية. استطاعت تونس في السنوات الأولى التي عقبت الاستقلال تأمين تكوين تعليمي جيد مكن من تعبيد الطريق أمام طبقة كبرى من المجتمع للخروج من دائرة الفقر، كما مكن من خلق جيل أكاديمي مثقف ساهم في تطوير و بناء القطاع العمومي و منه الدولة التونسية.

إلا أن هذا الواقع الوردي لم يستمر طويلا، إذ عرف قطاع التعليم خاصة في بداية التسعينات مع نظام الرئيس المخلوع الراحل زين العابدين بن علي تراجعا و تدهورا مَثّل القطرة التي أفاضت الكأس و كانت حجر أساس اندلاع ثورة 14 جانفي 2011، حيث ساهمت انعكاسات سياسة بن على التعليمية _التي انتجت آلاف العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات التونسية_ في انفجار حالة غضب شعبي أدت إلى الإطاحة بنظامه.

 عودة بالأرقام

في صباح السابع عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، اليوم الأول من السنة الدراسية الجديدة 2019/2020، جدد 2 مليون و 174 ألف تلميذ تونسي العهد مع مقاعد الدراسة ب6104 مؤسسة تعليمية. بلغ عدد تلاميذ المستوى التحضيري 63 ألف تلميذ سيتم و لأول مرة اعتماد برنامج بيداغوجي موحد لفائدتهم. أما المستوى الابتدائي فقد بلغ عدد المسجلين فيه مليون و 177 ألف، و بنحو 933 ألف تلميذ قدر عدد تلاميذ المعاهد الثانوية أي بزيادة نسبتها 6 في المائة مقارنة بالسنة الماضية. في حين باشر 155400 معلم و معلمة عملهم في السادس عشر من ذات الشهر، 76600 منهم تم توزيعهم ما بين المدارس الإعدادية و المعاهد الثانوية مقابل 78800 مرب للمدارس الابتدائية.

خلال ندوة صحفية عقدها الوزير حاتم بن سالم في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2019 والتي خصصت لتقديم اخر مستجدات العودة المدرسية، أفادت الوزارة أنها قررت انتداب 2574 متحصلا على الإجازة التطبيقية في علوم التربية و التعليم بداية هذه السنة، و تعيين 2356 من طلبة الماجستير المهني في علوم التربية، و 2645 معلم في إطار انتداب الدفعة الثانية من المعلمين النواب.رغم كل هذه الانتدابات إلا أن الموارد البشرية صلب وزارة التربية لازالت تشكو نقصا فادحا ب11 ألف مدرس في المرحلة الابتدائية فقط ، بالإضافة إلى نقص ب1000 عامل في الحراسة و التنظيف.

أزمة تعليم شاملة

للملاحظ أن يرى أن أزمة التعليم في تونس بدأت تطفو على السطح في أواخر التسعينات حين بدأت الدولة تلغى الرعاية الخاصة لبعض القطاعات كالصحة و التعليم و تحد من دورها الإصلاحي المباشر لهذه القطاعات. انسحاب تدريجي فرضته السياسية النيوليبرالية النوفمبرية (نسبة إلى 07 نوفمبر 1987 سنة وصول بن على إلى سدة الحكم) التي بدأت بالتحاق تونس بمنظمة التجارة العالمية ثم توقيع اتفاق تبادل حر مع الإتحاد الأوروبي، جعلت منها رهينة تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي.

إن من مفارقات الواقع المبكي/المضحك للتعليم في تونس أن وزير التربية و التعليم السابق، الأستاذ الجامعي ناجي جلول، ما فتئ يشيد في كل المنابر الإعلامية بدوره في إرساء أسس مشروع "المدرسة الرقمية" بكلفة ناهزت 400 مليون دينار و الذي يهدف إلى "فسح المجال أمام التلميذ و المربي على حد سواء للإبداع و الخلق باعتماد التكنولوجيا الحديثة لتصبح المحامل الرقمية من لوحات و حواسيب و شاشات عرض رافدا إضافيا مكملا للمدرسة العادية"، في الوقت الذي تشكو منه عديد مؤسسات التعليم من الاكتظاظ إذ وصل عدد التلاميذ في القسم الواحد (الصف الواحد) أكثر من أربعين تلميذا !!

جاء هذا المشروع في الوقت الذي اعتمدت فيه بعض المدارس و خاصة الريفية منها نظام دمج مستويين مختلفين في حصة واحدة كأن يُجمع تلاميذ السنة الثالثة و الرابعة من التعليم الابتدائي في ذات الحصة و لدى ذات المعلم، و ذلك للنقص الفادح في عدد المعلمين _على الرغم من أن هناك ألاف بل عشرات الآلاف من خريجي الجامعات و المعاهد العليا يبحثون عن فرص للعمل_. هذا دون الحديث عن المصاعب التي يعاني منها أبناء المناطق الريفية و الداخل التونسي في التنقل للوصول إلى مدارسهم في ظل غياب وسائل النقل، مازال هنا_في تونس2019 _ تلاميذ يضطرون إلى المشي عدة كيلومترات ذهابا و إيابا في قحط الصيف و برد الشتاء دون أي حماية تذكر. أما من حالفهم الحظ فقد يدفعون إلى ترك عائلاتهم في سن صغيرة من أجل الالتحاق بالمدارس الإعدادية و المعاهد الثانوية الداخلية و الإقامة في مبيتاتها.

لا يمكن الحديث عن أزمة واقع التعليم في تونس دون العودة على مشاهد قد ترافق التلميذ من سنته الأولى و حتى نيله شهادة البكالوريا، مشاهد مكررة في جل مدارس البلاد، كقاعات درس دون أبواب و نوافذ، مدارس دون دورات مياه صحية و صالحة للاستعمال البشري، أسقف تقطر مطرا ثم تنهار فوق الرؤوس الصغيرة و بقايا الطاولات. أما المدن و الحاضرات التي تضمن بنيتها التحتية الحد الأدنى من التعليم الصحي أصبحت هي الأخرى تعيش أوضاعا صعبة نتيجة القرارات المتخذة و المتعلقة بخفض الميزانيات المخصصة للصيانة و إعادة التهيئة.

لا تقتصر أزمة التعليم في تونس على الجانب المادي فقط، إذ أن كل ما سبق ذكره يتمحور أساسا حول الميزانيات المرصودة للمدارس من قبل وزارة التربية. إن ما يدعو إلى إطلاق صيحة فزع حقيقية هو غياب رؤية واضحة و استراتيجية عمل منظمة لحاضر و مستقبل التعليم. جميع الأطراف (الأساتذة، المعلمون، التلاميذ، الأولياء، الباحثون..) تعترف و تقر بأن المنهج الدراسي التونسي الحالي سواء على مستوى المحتوى او البيداغوجيا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر و المراجعة لما يتضمنه من خلل واضح أدى إلى تدهور و تراجع مستوى التلميذ التونسي في سلم الترتيب العالمي.

حرب إعلامية بين وزارة التربية و التعليم من جهة و نقابات التعليم المنضوية تحت راية الإتحاد العام التونسي للشغل من جهة أخرى، تواتر الاحتجاجات و الاضرابات(نفذت نقابة التعليم الثانوي سنة 2017 أطول اضراب للأساتذة في تاريخ تونس)، حقيبة مدرسية تقسم الظهر للكثرة الغير مبررة للكتب المدرسية و الأدوات المدرسية،طول ساعات الدراسة(من الثامنة صباحا حتى السادسة مساءا)، عطل مدرسية لا تتوافق و البرامج التعليمية المدرجة من قبل الوزارة، ارتفاع نسبة الأمية لارتفاع نسب الانقطاع المبكر عن الدراسة(أكثر من مائة ألف تلميذ ينقطعون عن الدراسة في مختلف مستوياتها سنويا)، ارتفاع نسب ترويج المواد المخدرة و استهلاكها داخل الوسط المدرسي، تفاقم ظاهرة العنف.. أزمة شاملة استمرت لسنوات و لا يبدو أن الوزارة تتعامل بجدية و مسؤولية لإيجاد حلول و مشاريع و برامج تنفذ على المدى القريب و المتوسط و البعيد، تساهم في انقاذ منظومة التعليم و العودة بها إلى مربع الاعتراف الدولي..

من المستفيد من الأزمة؟  

 للتعليم الخاص في تونس تاريخ يمتد إلى ما قبل الاستقلال حيث كان يتمثل في شكل مدارس فرنسية يشرف عليها 'الآباء البيض' الذين عرفوا في الوسط العام الشعبي بتسمية "الباباصات"، هناك مدارس أخرى امتد تواجدها في تونس لأكثر من 130 سنة، غير أن تجربتي مدرسة تونس الدولية التي تأسست في 1999 ثم في سنة 2007 مدرسة قرطاج الدولية تعتبران أهم العناوين العريضة التي عرفها الاستثمار في هذا القطاع.

 فتحت الدولة التونسية باب الاستثمار في قطاع التعليم الخاص في جوان/يونيو 1992 من خلال سن قانون يتيح إنشاء مؤسسات تعليمية خاصة إلا أن نسق نمو هذا الاستثمار لم يكن على قدر أحلام منتهجي الخيار الليبرالي، إذ كان التعليم العمومي ينال رضا عموم التونسيين. بمرور الوقت أصبح التعليم الخاص شرا لا بد منه بالنسبة إلى أولياء أمور الطلبة و التلاميذ الذين هربوا من أزمة التعليم في القطاع العام نحو الخاص، قطاع عمد "تجاره"على تكثيف مجهوداتهم للاستثمار فيه، خاصة مع توجه سياسة الدولة إلى خصخصة كل القطاعات العمومية بما في ذلك قطاع التعليم.

 في سنة 2000 بلغ عدد المدارس الابتدائية الخاصة 40 مدرسة، لم يتجاوز عدد المسجلين فيها عشرة آلاف تلميذ. اليوم، عدت وزارة التربية المدارس الابتدائية الخاصة بنحو 200 مؤسسة ل 50 ألف تلميذ. ازدهار التعليم الخاص لم يتوقف عند المستوى الأول فقط حيث عرف المستوى المتوسط(اعدادي و ثانوي) نسبة تطور جديرة بالتحليل و الدراسة،حيث وصل عدد المعاهد الثانوية و المدارس الاعدادية الى 300 من جملة 1700 مؤسسة أي بنسبة الخمس، تضم 80 ألف طالب من إجمالي 800 ألف طالب.للتعليم العالي كذلك نصيب من حمى الاستثمار في قطاع التعليم الخاص، حيث شهد تطورا بعشر مرات ما بين سنتي 2000 و 2018 ليصل إلى 66 مؤسسة، تُقدم الدروس فيها لأكثر من 35 ألف طالب في كل الاختصاصات.

 لئن اختلفت زوايا النظر التي تناولت ظاهرة ازدهار التعليم الخاص بالتحليل و الدراسة في بلد يشكو اضمحلال الطبقة المتوسطة و التي تمثل العمود الفقري للمجتمع و التحامها بالطبقة الفقيرة ، مقابل صعود 'برجوازيات جديدة' عمدت إلى اظهار تفوقها الطبقي من خلال خلق 'الدولة البديلة' الخاصة بهم، في بلد لا يتجاوز فيه مستوى الدخل الفردي اليومي سقف 3 دولارات، إلا أن المزايا التي يقدمها التعليم الخاص مقارنة بالتعليم العمومي تظل أبرز النقاط المشتركة بينهم، ففي المدارس الخاصة مثلا لا يمكن أن يتعدى معدل عدد التلاميذ في القسم الواحد 20 تلميذا (مقابل 40 في المدارس العمومية) ما يعطي ظروف أكثر ملائمة للتدريس و الفهم، توفر المدارس الخاصة فضاءات و مساحة وقت لممارسة الأنشطة الثقافية و الفنية و الترفيهية الأمر الذي يعد معدوما في المدارس الحكومية. فرضية الرسوب مستحيلة في هذه المدارس و هو ما يدفع بالأولياء إلى الحاق أبنائهم بنظام تعليمي لا يمكن بأي حال أن يخسر الطالب فيه سنته الدراسية. و أيضا، توفر المدارس و المعاهد و الجامعات الخاصة تكوينا بيداغوجيا يعتمد أساسا برامج أجنبية تفتح أفاقا تشغيلية حقيقية في المستقبل للعلاقة التي تربطهم مع عدة شركات و مؤسسات عالمية.


 في قراءة استشرافية مكررة، هذه العودة المدرسية لن تكون أفضل حالا من سابقاتها، مرض البوصفير سيسجل حضوره إلى جانب الطلاب و الأسقف أيضا ستنهار مرة أخرى و ليست أخيرة. حقيقة أن واقع التعليم في تونس لا يدعو إلى التفاؤل هي عين شمس واضحة و لا يمكن أن تحجبها اجراءات ذر الرماد على العيون المتعبة من قبل ست وزراء تداولوا الإشراف على وزارة التربية منذ الثورة. 

مرة أخرى، القطاع العمومي سيشهد نكبة جديدة مقابل إنعاش مسرف للقطاع الخاص.



                                                                                                  هيلان الماجري 

                                                                                                         تونس 


  • 2

   نشر في 13 أكتوبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Dallash منذ 5 سنة
ابدعت اخت هيلان دام المداد
3

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا