اللغة الأجنبية من إشكالية للتواصل إلى أداة للهيمنة
اللغة الاجنبية كهيمنة وعرقلة للتواصل
نشر في 06 شتنبر 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
باعتبار اللغة الأجنبية في البلاد العربية لغة ثانوية وغير رسمية فمن المحزن حقا أن تتحول إلى أداة للعرقلة وذات صيت وفعالية وهيمنة في كل المجالات الى درجة تؤخذ فيه مقياسا للتحضر والتعالي لدى المتعاملين بها..
اللغة الأجنبية كعرقلة للتواصل
لكن اللغة قد تصبح هي ذاتها عائقا للتواصل والاتصال وأمرا يستعصي على الفهم والإفهام إذا ما استعملت في غير ما وضعت أو تم توظيفها كخطاب غير مطابق لمقتضى الحال– على حد تعبير البلغاء- إلى حد يصعب التمييز فيه بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
إنك لتتصفح اليوم في مغربنا الحديث جل الوثائق الإدارية وغيرها مما تتعامل به الشركات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والأبناك والمصارف ..إلخ والموجهة للموطن يوميا أو كل شهر، فتجدها وثائق محررة باللغة الفرنسية ..
ما عليك للوقوف على صحة ما أوضحناه إلا أن تقرأ متأملا فاتورات الكهرباء والماء والهاتف والضريبة وشبكة الانترنت وكذا العقود ومراسلات الأبناك وغير هذه النماذج من الوثائق كثير..إنك حتما ستجدها مكتوبة بلغة " موليير" الذي لم يسبق له هو ذاته أن كتب بلغة غير لغته أو تكلم بلسان غير لسان بني جلدته.
كل ذلك يجري بالرغم من ان الدستور المغربي ينص في فصله الخامس على ما يلي : "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء."
ومع ذلك، فقد اصرت بعض الوزارات على التعامل باللغة الفرنسية، مما أزعج رئيس الحكومة العثماني، فاصدر منشورا أكد فيه أن الإدارات العمومية ملزمة باستعمال اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية، أو هما معا، في جميع تصرفاتها وأعمالها، وقراراتها وعقودها ومراسلاتها وسائر الوثائق، سواء كانت داخلية أو موجهة للعموم.
شواهد من الواقع :
وهناك شواهد من الواقع تدلل على ما نقول : فإذا ما تسنى لك مثلا أن تتطلع على فاتورة الماء ، فإنك ستجد في تفاصيلها الداخلية معلومات خاصة بالاستهلاك محررة من اليسار إلى اليمين باستثناء ترجمة محتشمة لبعض رؤوس الأقلام إلى العربية. وفي نهاية هذه الوثيقة ذاتها يمكن أن تقرأ بالفرنسية هذا التحذير" في حالة عدم أدائكم لواجب الاستهلاك، فإنكم ستتحملون تبعات حجز عدادكم بتاريخ..... "
وقد لا يعير المستهلك أهمية لذلك أو قد لا ينتبه لهذه الملاحظة أو قد لا يفهم المعنى المقصود حتى وإن كان على شبه دراية بالخطاب المفرنس.
وعندما أتصفح مثلا فاتورة استهلاك الكهرباء الشهرية أجدها كلها محررة بالفرنسية سوى عناوين صغيرة بسيطة مترجمة للعربية. وتحت الإطار المخصص للأداء ونهاية فترته في واجهة الصفحة تجد تنبيهات بالفرنسية كما هو نصه :
(( - أخذا بعين الاعتبار فواتيرك السابقة ، فإن في ذمتك مبلغا قدره .... درهما ما عدا وجود خطأ أو سهو.
- لأية معلومات أو شكوى بخصوص فواتيرك ، يمكنك الاتصال بمركز العلاقات مع الزبناء عبر الهاتف على الرقم ....... أو عن طريق البريد الإلكتروني على ...@... ، وانتقل إلى موقعنا على الويب www..... أو اتصل مباشرة بوكالتك.
- إذا كنت ترغب في الاستفادة من تسهيلات الأداء، فإننا ندعوك للاتصال بمركز العلاقات مع الزبناء أو الوكالة الخاص بك..)).
عندما أتلقى مثل هذه الفاتورات او المراسلات او التبليغات أو الإشعارات الخاصة ، تجدني في حيرة من أمري بحيث لا ادري إن كانت موجهة لي شخصيا حقا أو موجهة لشخص أجنبي اسمه "ميشيل" أو "جون" أو "شارل"..
وعند ولوجي إلى صفحتي في موقع "الصندوق المغربي للتقاعد" بحثا مثلا عن بياناتي الشخصية من أجل التعديل أو الاطلاع أو من أجل طلب وثيقة خاصة بي، تصادفني في أعلى الواجهة أيقونة اختيار اللغة .. فاختار العربية بالطبع إلا أنني أفجا بان البيانات بالفرنسية والوثيقة المطلوبة محررة أيضا عند الطبع بنفس اللغة..
وفي أحايين أخرى ، حينما ترغمك ظروفك إلى أن تلجا للاشتراك أو الانخراط في شركة من الشركات أومصلحة من المصالح ، فإنك ستضطر إلى التوقيع على عقد من عقودها تحت بنود أو مضامين لا تفهمها ولا تدري ماهيتها أو قد تستعصي على الشرح ، بل إن معظم هذه البنود تكون لصالح صاحب العقد . ولا نزال نرى في وقتنا الراهن عقودا ذات أهمية قصوى كالعقود التجارية والعقود المتعلقة بالعقار توثق باللغة الفرانكفونية . صحيح أن الممضي يتحمل مسؤولية ما يمضي عليه ، غير أنه يصبح من غير المقبول أن نحيل المواطن على وسيط للترجمة في بلد يتبجح بأن له دستورا من أسمى القوانين ينص في سطوره الأولى على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد..مع ما يمكن ملاحظته في هذا الباب من إجحاف في حق اللغة الأمازيغية، اللغة الأم، التي تتحدث بها معظم الساكنة في ربوع الوطن ، مما يستوجب فك الحصار عنها لتتعايش جنبا إلى جنب مع العربية...
وأينما حللت وارتحلت، وجدت جل الساحات الكبرى والأحياء الراقية والمراكز التجارية والشوارع والمقاهي ،تحمل أسماء أجنبية بأحرف لاتينية.. وعلى الحيطان واللافتات واللوائح الإشهارية يسترعي انتباهك إعلانات خطت بنفس الأحرف إلى جانب ترجمة متواضعة بعربية ركيكة لا تخلو في غالب الأحيان من أخطاء لغوية ونحوية وصرفية..
أما عن اللغة المنطوقة فحدث ولا حرج؛ ففي بعض برامج التلفزة المغربية بالعربية وثائقية كانت أو إخبارية، لا بد أن تثير انتباهك شخصيات مغربية مرموقة ، في مقابلات أو لقاءات صحفية ، تجيب في اطمئنان وهدوء عن الأسئلة العربية بردود فرنسية، وقد يقع بعضهم في حيص بيص ليجيب بهذه وتلك في آن واحد.
ومن الملاحظ أن عددا كبيرا من العمالة المغربية القاطنين بالخارج والذين قضوا فترة طويلة هناك، يعمدون إلى استثمار مدخراتهم في مشاريع في بلد المنشأ، وخاصة منها المقاهي والمطاعم، أضف إلى ذلك غيرهم من الأثرياء و كبار المستثمرين في الفنادق والمحلات التجارية الكبرى التي ستثير انتباهك بالأسماء التي تحملها وأنت تجوب شوارع مدنها في طول البلاد وعرضها..تسميات من قبيل: "سان مارينو".. "ميلانو".. "فيكتور هيجو".. "كرانادا".. "كارفور".. "ريجنسي". بل إن بعضها مما يتم تصنيفه في أعلي درجات الجودة لا يتواني في إن يعرض عليك قوائم المأكولات والمشروبات والمطبوعات والوثائق الإشهارية واللافتات بلغة أجنبية لا أثر فيها لحرف واحد من لغة البلد.. ناهيك عن منشآت عديدة أخرى مما لم نأت على ذكرها حتى لتخال نفسك بين أحضان بلد أجنبي..
دوافع الاهتمام باللغة الأجنبية
لكن لم كل هذا الاهتمام الزائد باللغة الأجنبية لدى المتعصبين لها كتابة ونطقا بالقياس إلى العربية..؟
من المؤكد أن ذلك يعود في نظري إلى دوافع..تذكر أهمها فيما يلي :
- الاعتقاد الراسخ بأنها مظهر من مظاهر الرقي والتمدن مادام أهلها أهل حضارة ومدنية، في حين ان العربية لغة بداوة وتخلف..
- العربية تدور في إطار ضيق بحيث لاتسع كل المجالات وخاصة منها العلمية والتقنية..
- تقديم تبريرات من قبيل أن التركة الاستعمارية ومخلفاتها في جميع المؤسسات لا تزال قيد الاستعمال بلغتها وأن التخلص منها يأتي على مراحل وليس في وقت وجيز.
- اعتبارها وسيلة من وسائل التسامي والتعالي والنخوة والتفوق...
وأغلب الظن ان هذه الموقف السلبية إزاء اللغة العربية تصدر عن تقديس أعمى للغة الأجنبية من عقول عربية تلقت تكويناتها وثقافتها من وسط أجنبي ..
ويرد عليها بأن العربية لم تكن يوما قاصرة على مواكبة الركب التطوري أو كانت عاجزة عن استيعاب الألفاظ الجديدة وأساليب التعبير الدقيق في مجال العلوم والتقنية.. بدليل أن بعض البلدان العربية كسوريا لا تزال تدرس الطب بلغتها ومنذ أمد بعيد...
صحيح أن لغة أجنبية كالإنجليزية مثلا لغة حضارة وعلم ورقي مادام أهلها قد تعهدوها بكل ما يلزم من رعاية وتطوير واهتمام بالغ، لكن هذا لا يعني أن العربية قاصرة وغير قادرة على المنافسة ومسايرة مستجدات العصر .
وبهذا الصدد، يقول الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدة له تحت عنوان "اللغة العربية تتحدث عن نفسها" :
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً *** وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة *** وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
إن اللغة بمثابة كائن حي يمكن أن يتطور وينمو وينتعش إذا تعهدها أهلها بالرعاية والتطوير في المؤسسات العلمية المتخصصة.. فالقصور والعجز لا محالة يعود في جزء كبير منه إلى أهل اللغة وليس إليها بالذات...
إني لا اقصد في حديثي هذا إلى النيل من شـأن هذه اللغة الدخيلة أو الدعوة إلى الحط من مكانتها أو نبذها ، فتعلم اللغات مسألة مستحبة بل هي من الضرورات القصوى . والرسول الكريم نفسه يقول " من تعلم لغة قوم أمن شرهم". ونحن لن نأمن شرور قوم فقط وإنما سنحيط علما بما لديهم من خيرات ونطلع على الظاهر والخفي من شؤونهم ومختلف أحوالهم. وإنما قصدنا صيانة خطابنا المكتوب والمنطوق بالحرص على توظيف هذا الدخيل المهيمن فيما تقتضيه الضرورة مع مراعاة أحوال المخاطبين ومستوياتهم المعرفية..
-
صالح اهضيركاتب صحفي، زجال، موسيقي وقصاص...