في أول يوم من العمل بعد عطلتها الصيفية ،ارتدت والدتي ملابسها المعتادة و حضرت لنا فطورنا المعتاد و كان لوالدي رؤية مختلفة كالمعتاد أيضا .
وضعت معجون الأسنان على الفرشاة و غسلت أسناني ،و حركت رأسي مع أنغام السمفونية المعهودة "بدأ الدخول والخروج ، ماذا تضعين على وجهك ؟، أليس لديك شيء آخر ترتدينه؟
مشيت إلى الخلف لأرى وجه أمي الهادئ الجميل،خفضت عينيها متأملة فنجان القهوة ،تساءلت لو أنها في إحدى المرات قررت اعتزال العمل هل كان سيسمح لها ؟لكن بدل شكرها سيجد ما يلومها عليه تماما كما يلومها على ذوق الطعام "اللذيذ" وعلى المصاريف "القليلة"و على أي شيء تفعله أو تقوله.
_هيا ماما سنتأخر .
_ متى ستتأدبين و تقولين لوالدك صباح الخير ،و لكن من ستشبهين غير والدتك .
_صباح الخير أبي العزيز ، أولا أنا لا أشبه أمي بل أشبهك أنت ، ثانيا أمي لا تضع شيئا على وجهها ، ولباسها أنت اشتريته لها ، ثالثا لا تصرخ كثيرا مازال الوقت مبكرا ستفقد صوتك قبل المساء .
نظرت إلي أمي بغضب مازالت تذكرني في كل موقف بآخر مرة صفعني و مازلت أتذكر قوة الضربة و أرى ما حدث يومها كلما سمعت صراخه.
لم أطل الوقوف ،حملت كيس النفايات(بدلا عن أمي التي حملته لسنوات) و سبقتها في نزول الدرج صارت تمشي بخطى متثاقلة ،تعبت كثيرا بعد سنوات من التدريس، لكني لست متأكدة من سعادتها لحصولها على التقاعد ،سيتوجب عليها رؤية أبي أكثر ،يا للمسكينة! هل ينبغي عليها التحمل ؟أتساءل دائما عن الحزن الذي يصنعه الانسان بنفسه ،بأقل جهد ينتقل من فئة السعداء إلى فئة التعساء ،من يوزع الشقاء يمنة ويسرة هو شخص تعيس أيضا و ابتسمت حين فكرت بأن كمية الشقاء كبيرة جدا لم تنته لعشرات السنوات .
حالما جلست إلى جانبي في السيارة بدأت بنصحي بضرورة إحترام أبي و تفادي مناقشته و تحديه و أجبتها بأنني لن أجادله مجددا .وكنت صادقة بالفعل،حدثتها دون كلام :" بمجرد أن أراه يعاملك بقسوة أنسى كل وعودي بالصمت"، أخبرتها بأنني أحبها كثيرا وهي تنزل من السيارة محذرة إياي من أخطار السرعة .
نظرت إليها و هي تدخل من باب المدرسة ، المعلمة الفاضلة والمبتسمة دائما ،حسبتها قوية جدا ، لا تبكي، أو تمنيت أن تكون كذلك في قرارة نفسي ، رأيت دموعها قبل أعوام لما دافعت عنها "أبي ،أرجوك ،هي لم تفعل شيئا"حينها صفعني وارتطم رأسي بقوة بالحائط ، ضحكت و ضحكت و تفاجأت و أنا أراها تحتضنني وهي تبكي ،اعتقدت أنني جننت.(لم أجن) ،تعجبت لأن الضربة لم تكن قاتلة ،لم تكن مؤلمة إلى الحد الذي توقعته ،ضحكت وأنا أرى صنم أبي يتحطم أمامي ،رأيت بابا يفتح ،أملا بأنني قادرة على تغيير واقع فرض علينا لسنوات بسبب الخوف ، أتذكر وجهه عندما وقفت ،تفاجأ و كأنه يراني لأول مرة ،مهتزا ،حائرا ،خائفا ،قبلت يدي أمي المرتجفتين و اخبرتها بأنني صرت محامية كي أدافع عنها ،كي لا أسمح لأي شخص بظلمها ، أنني مدينة جدا لها و بكل شيء ،مدينة لها بسعادتي ، رأيت ابتسامتها في كل يوم ،كم كانت طفولتي مشرقة بوجود ضحكتها ،كم كنت ساذجة و أنا أصدق قصصها الرائعة ! غادر المكان لأول مرة ،انسحب ،و بكت والدتي كطفلة صغيرة متعبة جدا و مطمئنة جدا ،و أحسست بأنه يجب علي أن أكون "أنا ".
تغير الوضع في البيت كثيرا ،أبي الذي لا يخشى أحدا صنع المارد يوما بعد يوم و في أول فرصة خرجت من القمقم ، حتى مشاكله صارت نادرة ، للأسف صرت أنا الحكم ، و ارتاحت أمي قليلا و ربما ارتاح أبي أيضا من لعب دور الشرير.
لما وصلت الى المكتب وجدت صديقتي و شريكتي بالعمل ترتشف فنجان قهوة مع موكلتي .تفاجأت لحضورها دون موعد و توقعت أنها تصالحت مع زوجها.
فتحت ملفها و نظرت إلى الصورة التي تظهر الكدمات التي اختفت تقريبا من وجهها و تقرير الطبيب و حاولت أن أستفسر عن سبب قدومها بلطف ،كان توقعي خاطئا فسبب زيارتها و ارتباكها هو "الأجر"، طمأنتها بأن هناك فاعل خير دفعه سلفا عن قضية كل امرأة مظلومة ، لم أخبرها بالتأكيد أنه "أبي" و بأنه القضية الوحيدة التي خسرتها طاعة لأمي.
فتحت الكتاب الموضوع منذ مدة في الدرج و نظرت مليا إلى الوردة المخبأة بين صفحاته ،حرصت عليها جدا ، حين أهدانيها عمر ،نعم كان إسمه عمر ،أحسست أنها وردة مسمومة،رأيت وجه أبي في ملامحه رغم أنه لا يشبهه .
أبي أحب أمي أيضا و استمات للفوز بقلبها ،لم يفهم عمر أبدا سبب رفضي و لم أحاول أن أشرح له .
ماذا كنت سأخبره !أنني كنت أجلس في آخر مقعد بالقسم منتظرة أمي التي حاولت أن تزرع القيم في نفوس الأطفال لسنوات ، أنها شرحت مفهوم الأسرة بطريقة جعلتني أعي جيدا بأنها كانت كل أسرتي و بأنني كل أسرتها، أو ربما بأنني بقايا انسان ، لم أكن لأجعله ضحية ل...الأسرة .
في كل القضايا التي مرت علي لم أتساءل كثيرا عن مجتمعنا و كيف صار وحدث و أصبح بكل هاته السلبيات ،فقط حاولت أن أبدأ حياتي بضمير و انتبه كي لا أظلم معتقدة أنني الأقوى، لو صنعت المارد بقسوتي وظلمي أو حتى بضعفي و استسلامي فسيلتهمني ذات غضب . رفضت الجميع لأنني خائفة من عدم قدرتي على تحطيم أصنام أخرى ، أغلقت الكتاب ووضعت رأسي على المكتب سأرتاح قليلا قبل عودتي إلى أمي ،كل أسرتي.
التعليقات
جميلة هي كلماتك ، والأجمل منها تلك الأنامل التي خطّت لنا هذه الكلمات الرائعة
دامت كلماتك وخواطرك أيتها الفتاة القاسية رغماً عنها ..
دمت وجها للجمال في الأدب و الكتابة
وهذا فى النهاية مجرد رأى متواضع هدفه الرغبة فى مزيد من التقدم لكاتبة جميلة ، فكلامى لن يقدم أو يؤخر شيئا فى كونك متألقة دائما بأفكارك ، أرجو لك وللجميع كل التوفيق