ذكر ابن عبد ربه في كتابه الشهير "العقد الفريد" بعضا من القصص الباهرة والطرق الحسنة للتخلص من سيف السلطان وقسوته ، وكان اللسان هو ما أنجى الذين كان لا بد من قتلهم ، فأحسنوا القول وتسلحوا به ؛ فأنجاهم قولهم من موت كان قد قضي لهم به ، فاجعل قولك فطنا ومؤثرا ومقنعا ؛ كي تنجو كهؤلاء .
فأردنا أن نستوفي بعض القصص والحكايا من هذا الدر الثمين ، والكنز الدفين والذي وصفه كإسمه "العقد الفريد" .
وإليك قصة معن بن زائدة مع بعض الأسرى :
" كان معن قد أمر بقتل جماعة من الأسرى ، فقام إليه أصغر القوم ، فقال له : يا معن ، أتقتل الأسرى عطاشا؟ فأمر لهم بالماء ؛ فلما سقوا قال الصبي : يا معن ، أتقتل ضيوفك؟ فأمر معن بإطلاقهم " .
فلو لا فطنة هذا الصبي لكرم وحلم معن بن زائدة ، ثم إلى مدافعته عن الضيف كأنه واحد منه ؛ لقتلوا جميعا ، وكما قال المأمون : بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول ...
ولعمر بن الخطاب قصة جميلة مع الهرمزان ، وأن كيف خلص الهرمزان الفارسي نفسه من سيف عمر بكل فطنة وذكاء ، حتى إن عمر لأعجب بحنكته وفطنته ، فهذه هي القصة :
عندما جئ بالهرمزان الفارسي وهو مقيد - بعد حرب طحن بها الجيش الإسلامي رؤوس الفرس - لعمر بن الخطاب فعرض عليه الإسلام فأبى، فقال عمر : اقتلوه ، فلما باشروا قطع رأسه طلب من أمير المؤمنين بشربة من ماء ؛ كي لا يموت على ظمأ ، فأمر له بها فقال لعمر : أأنا آمن حتى أشرب الماء؟ فرد عليه : بأن نعم آمنك حتى تشرب الماء ، فألقى إناء الماء من يده وقال : الوفاء يا أمير المؤمنين نورٌ أبلج ، فرفع عنه السيف فشهد الفارسي الشهادتين وأعلن إسلامه ، فقال له عمر : ويحك ! لقد أسلمت خير إسلام فما أخرك؟ فقال له : خشيت أن يقولوا أسلم من الخوف فأبيت ذلك على نفسي ، فقال عمر: إن لفارس حلوما بها إستحقت ما كانت فيه من الملك .
وتقول العرب : لسانك حصانك ، فإن صنته صانك وإن خنته خانك ومكر بك .
وقيل أيضا في كتاب "العقد الفريد" قصة معاوية بن أبي سفيان مع رجل من أهل العراق أسر يوم صفين :
" قال معاوية : الحمدلله الذي أمكنني من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة ! اضرب عنقه يا غلام ! فقال الأسير : اللهم إشهد أن معاوية لم يقتلني فيك ولا لأنك ترضى بقتلي ، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا ، فإن فعل فافعل به ما هو أهله ، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله ، فقال له : ويحك قد سببت فأبلغت وقد دعوت فأحسنت ! خليا عنه " .
لسانك السليم وقولك البليغ هو ما ينقذك بعد الله من سيف السيافين ومن أمر الحاكمين ، بل وقد يقربك إليهم ، فاحفظ لسانك وجمل قولك .
وهذه قصة عبدالملك بن مروان ورجل أمر بقتله ، يحكيها عقدنا الفريد :
" أمر عبدالملك بن مروان بقتل رجل ، فقال له : يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله . فعفا عنه " .
ولقد جاءتني رسالة من أبي ذات ليلة ، وكان فحواها عن حدثٍ حدثَ في العصر الأموي وكان هذا الحدث بالعراق ، إذ أمر الحجاج بن يوسف الثقفي بضرب عنق كل من يتجول بعد العشاء ، فوجد أحد الجنود في تلك الليلة ثلاثة صبيان ، فأحاط بهم وسألهم : من أنتم حتى خالفتم أوامر الحجاج ؟
فقال الأول :
أنا ابن الذي دانت الرقاب له
ما بين مخزومها وهاشمها
تأتي إليه الرقاب صاغرة
يأخذ من مالها ودمها
فأمسك الجندي عن قتله خشية أن يكون من أقارب الحجاج .
وقال الثاني :
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره
إن نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره
فمنهم قيام حولها وقعود
فتأخر عن قتله الجندي ، وقال : لعه ابن أجود العرب .
وقال الثالث :
أنا ابن الذي خاض السيوف بعزمه
وقومها بالسيف حتى استقامت
ركاباه لا تنفك رجلاه عنهما
إذا الخيل في يوم الكريهة ولت
فتأخر عن قتله الجندي ، وقال : لعله ابن أشجع العرب .
ولما أصبح الصبح وانقشع الظلام رفع أمرهم إلى الحجاج ؛ فأحضرهم وكشف عن حالهم ، فإذا بالأول ابن حجام ، والثاني ابن فوال ، والثالث ابن حياك ، فتعجب الحجاج من فصاحتهم ، وقال لجلسائه : علموا أولادكم الأدب ، فلو لا فصاحتهم لطارت رقابهم .
وأخيرا دونك الحكمة والقول السديد فإنهما سلاحان لا يتركان ، واجعل الكلام ينجيك ولا يهينك ، ويرفعك ولا يهوي بك ، وكما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : " عود لسانك حسن الكلام تأمن الملام " .