قراءة في مذكرات محمد فايق (1)
نشأة النابغة!
نشر في 19 غشت 2024 وآخر تعديل بتاريخ 20 غشت 2024 .
منذ عدة أشهر وفى مكالمة هاتفية مع الصديق العزيز والقيادى الناصرى البارز وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومى العربي الأستاذ "أحمد حسين" تحدثنا يومها فى عدة مواضيع(فحوارى مع أحمد دائماً يمتد عبر الأفق ليخترق الحواجز ويجوب الآفاق) وكان وقتها يستعد للسفر للبنان لحضور أعمال المؤتمر القومى العربي ، وخلال المكالمة عرفت منه صدور مذكرات وزير الاعلام الأسبق السيد "محمد فايق" بعنوان "مسيرة تحرر "، وعندما سألته عن ثمنها؟ أجاب: ب (١٨ دولار ، ٤٠٠ ج مصرى).
ورددت عليه:«غالية قوى ، وأضفت ، انا اشتريت مذكرات مستشارة الأمن القومى الأمريكى كوندليزا رايس ب ١٠٠ ج من الشروق!! ، يعنى مذكرات وزير سابق من عصر عبد الناصر أغلى من مذكرات مستشار الأمن القومي الأمريكي»؟!
وأضفت: عامة هستنى لما تنزل (pdf) على النت ، أو لو جبتها إنت ، إقرأها ، وسلفها لى أسبوع ، وأرجعها لك بعدها.
ورد يومها بكرم أخلاقه المعتاد: «ولا تستنى تنزل على النت ، ولا تستنى لما أقراها ، هجبها لك هدية وأنا راجع».
ولظروف كلانا لم نتقابل فى تلك الفترة ، ومنذ فترة قريبة استطعنا أن نتقابل فى معية أصدقاء أعزاء مشتركين لكلانا ، و«طال» الحوار و«تشعبت» الأراء ، و«تعمقت» النقاشات من الساحة الداخلية ، للفضاء الخارجى ، ومن الأزمة الاقتصادية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وقبل أن يتركنا أحمد ، أعطاني الكتاب ، وقال لى: «إقرأه ، وأما نشوف هطلع منه إيه».
واتصلت بأحمد بعدها بيومين ، وقلت له:أنا انتهيت بالفعل من قراءة المذكرات ، وسأكتب مجموعة من المقالات عنها ، وطلب منى أحمد أن يكون ذلك عقب احتفالات ثورة ٢٣ يوليو المجيدة.
وها أنا اليوم أبدأ بنشر بعض مشاهداتي أو ملاحظاتي أو انطباعاتي الأولية على تلك المذكرات بعد قراءتها ، وها هي أولى حلقات ذلك الانطباع أوتلك المطالعة لمذكرات السيد محمد فايق(وزير الإعلام الأسبق فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر) ، الذى كنت «استثنيه» دائماً من وسط مجموعة ما سمي ب 15 مايو(المجموعة التى اختلفت مع الرئيس السادات فى بداية عهده وقام بمحاكمتهم وسجنهم).
ولقد كان رأيي ولا زال «أن غالبية تلك المجموعة وعلى رأسها السيد سامى شرف كانوا مجرد (أدوات سلطة) في يد الزعيم جمال عبد الناصر ليس أكثر، إلا السيد محمد فايق».
وأتذكر أننى قلت تلك الملاحظة في أحد اللقاءات بالأستاذ محمد حسنين هيكل (رحمه الله) ، وكان جواب الأستاذ على ملاحظتي هي ابتسامة هادئة على الوجه دون تعليق منه على قولى ، ظننتها وقتها موافقة منه على رأيي(أو هكذا أردت التصور!).
وهناك عدة أمور لفتت نظري في الفصول الأولى للمذكرات:
الأمر الأول – أن المدارس في المحافظات كانت توازى نفس الامكانيات إن لم تزد على مدارس العاصمة: ففايق الصغير الذي نشأ في مدينة المنصورة الجميلة، ولكنه انتقل مع أسرته للقاهرة بعد انتقال والده yلى وزارة الشئون القروية، على الرغم من التحاقه بمدرسة "الإبراهيمية الثانوية" في جاردن سيتي، وهى أحد أهم المدارس الثانوية بالقاهرة بل في مصر كلها وقتها، إلا أن فايق يقول أنها لم تكن بمستوى مدارس المنصورة الثانوية التي كانت تفوقها في معاملها ومدرجاتها ومكتبتها الكبيرة.
الأمر الثاني – أنه على الرغم من قوة الحركة السياسية في ذلك الوقت وعلى الرغم من أن مدرسة فايق كان بها طلبة ينتمون لأحزاب (كالوفد) أو جماعات (كحدتو الشيوعية والاخوان المسلمين)، إلا أن فايق لم ينضم لأى من الحركات السياسية وقتها أي أنه (لم يكن مسيس) ، وإن كان همه كما يقول هو نصاً (قضية الاستقلال وإنها الاحتلال البريطاني لمصر) ولكنه لم يذكر كيف سيجلى المحتل دون انضمام الشباب للحركة الوطنية!
الأمر الثالث – أن فايق يؤكد على تفوقه ونبوغه الدائم في كل ورقة من المذكرات، وتلك لازمة ثابتة في المذكرات الفائقية!
فهو حصل على الشهادة التوجيهية بمجموع(80.50 %) ، وكان سيدخل الطب بذلك المجموع الكبير لولا أن أعلنت الكلية الحربية عن حاجتها لدفعة جديدة ، وكان قبلها مضى ثلاث أعوام دون إعلان الحربية عن حاجتها لدفعات جديدة.
المهم أن فايق (المتفوق في كل شيء من المواد العلمية للياقة الرياضية)!تقدم للحربية ، وتجاوز اختبارات اللياقة البدنية وحصل على درجة عالية في سباق المائة متر، ثم جاء موعد كشف الهيئة ، ودخل فايق للجنة كشف الهيئة ليجد أمامه لجنة مكونة من 11 لواء على رأسهم مدير الكلية الحربية وكلهم بالطبع يحملون لقب الباشوية.
وانهالت عليه الأسئلة للكشف عن شخصيته كما يقول فايق، ولكن فايق النابغة يقول نصاً: (ومع مرور بعض الوقت بدأت الأسئلة تأخذ مساراً مختلفاً، وفيها نوع من الود، وبدا وكأن كل من على المنصة يعرفني، إلى درجة أن بعض الأسئلة تسببت باحمرار وجهي، أسئلة مثل "تعرف كام بنت؟"!!
إلى هذه الدرجة امتد تأثير فايق النابغة(الذي لم يكن يمتلك أي واسطة تُذكيه للدخول للكلية الحربية، كما يقول هو) في اللواءات الباشوات أعضاء لجنة كشف الهيئة، آلم أقل لكم نابغة!
ثم إنه بعد دخوله للكلية الحربية تفوق فى رياضات (السيف والشيش) وكأن أحد الطلاب الذين أسس عليهم فريق الكلية فى تلك اللعبة.
وفى رياضة الفروسية فحدث ولا حرج ، فالطالب فايق يقول نصاً:
(في أحد طوابير الصباح أخبرنا الضابط المسؤول وكان الملازم عصام الحيني أن الكليه تنوي تنظيم حفل فروسية كبير قبل نهايه السنه الدراسيه وأنه يريد تكوين فريق يدربه استعداداً لهذا الاحتفال الذي سيكون فيه سباق قفز الحواجز والعاب أخرى
لذلك فهو يبحث عن الطلاب الذين سبق لهم ركوب الخيل ، فرفعت يدي ودخلت المسابقه التي بدأت بإطلاق طلقه في الهواء فانطلقت الخيول براكبيها بما فيها الحصان الذي كنت على ظهره من دون أن أعطيه أي إشاره أو أمر فالخيول مدربة على هذه المسابقات وكان من المفروض أن يقطع المتسابقون مسافه معينة وضعت في نهايتها (الكابات) لبس الراس للمتسابقين، عندها ينزل المتسابق عن الحصان ويلتقط الكاب الذي يخصه ثم يركب عائداً إلى نقطه البداية.
بعد ثواني قليلة من انطلاق الخيل وجدت نفسي على الأرض لكنني تمسكت باللجام ولم أتركه، على الرغم من أن الحصان سحلنى على الأرض مسافة طويلة ولم أتركه إلا بعد أن توقف وقمت وامتطيت ظهره وذهبت والتقت الكاب الخاص بي وعدت إلى نقطة البداية وطبعاً كنت الأخير ، وهممت بالإنسحاب لكن استوقفنى الملازم عصام وأعلن أنني من الفائزين وقال: "هذه نوعيه الرجال التي أريدها فركوب الخيل يحتاج الى شجعان يتحملون المشقة".
بعد ذلك وفي لقاء آخر سألني الملازم عصام الحينى:لماذا كذبت فمن الواضح أنك لم تركب الخيل من قبل؟
فقلت أنني لم أكذب حيث كنت عندما أدعى الى مزرعه أحد الأقارب أو الأصدقاء (أركب خلف أحدهم) فضحك وانصرفت وأصبحت ضمن فريق الخيالة وكان التدريب مرهقاً وشديداً حتى القسوة وأجدت قفز الحواجز بالخيل وأصبحت في فريق الفروسيه الأساسي للكلية الحربية كما أصبحت هذه الرياضه هوايتى المفضلة إلى درجة أنني بعد التخرج اشتركت في نادي خاص للفروسيه).
وفى مقطع أخر يقول: أنه كان من أوائل الخرجيين، وكان من حق هؤلاء الأوائل أن يختاروا السلاح الذى يرغبون فيه وبناء على ذلك اخترت سلاح المدفعية، ثم اخترت المدفعية الثقيلة المضادة للطائرات، على الرغم من صعوبة الدراسة التأهيلية لهذا النوع من السلاح.
وفى مقطع أخر يقول: بدأت الدراسة فى فرقة المدفعية مع الدفعة التالية ، وكانت تبدأ هذه الفرقة بدراسة مكثفة لمدة شهرين تسمى الفرقة العامة (دراسات عامة عن أفرع المدفعية المختلفة) يتم بعدها اختبار تحريرى وشفوى لمعرفة قدرات كل ضابط، ويوزع الضباط بعدها عل أفرع المدفعية الثلاثة، وكنت الأول على هذه الدفعة، على الرغم من أنها كانت تضم عدداً من الضباط المشهود لهم فى الجيش، مثل المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة (الذى أصبح وزيراً للدفاع)، ومختار هلودة (الذى راس الجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء).
هكذا فإن تفوق محمد فايق مستمر منذ الصغر ولم ينقطع طيلة فترة الصبا حتى الكَبر كما سنرى!
الأمر الرابع – هو الاهتمام الواضح من الدولة وقتها بالتعليم ورُقى المُعلم: فهو يذكر أن من كان يدرس له هندسة السيارات عالم كبير هو الصاغ أركان حرب "حسن رجب"، وكان قد اخترع ما سُمي (ببوصلة رجب) واستخدمت في الحرب العالمية الثانية وذاعت شهرته العلمية بعد ذلك. وكان يُدرس له علم الاستراتيجية الصاغ (أركان حرب) "محمود رياض"(وهو كبير خبراء الصراع العربي الاسرائيلي ووزير الخارجية المصري وأمين عام جامعة الدول العربية) ، وكان يدرس له الكيمياء د. "مصطفى كمال حلمى" وزير التعليم بعدها ورئيس مجلس الشورى الشهير في عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. ودرس له التاريخ "يوسف السباعي" الأديب المعروف ووزير الثقافة والاعلام. ودرس له القانون الدولي العلامة القانوني د. "حافظ غانم" وأصبح في عهد السادات أمين للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي.
الأمر الخامس - أن فايق الطالب بالحربية يؤكد على حقيقة استراتيجية يعرفها كل دارس لفنون الحرب والاستراتيجية ، وهى أن أمن مصر القومى يبدأ عند الشرق.
فهو يقول نصاً: (من واقع الدراسات العسكرية، سواء التاريخ العسكرى أم علم التكتيك أم الاستارتيجيات، تعلمنا أن معظم التهديدات العسكرية لمصر تأتى من الشرق وذلك من عهد الفراعنة،فدرسنا معارك الهكسوس فى عهد أحمس ، ومعركة حطين، ثم الحروب الصليبية فى عهد صلاح الدين، وعلى هذا الأساس، وضعت المشروعات التعليمية كلها والافتراضات التدريبية).
ويُضيف:
كما ترسخت فى أذهاننا حقيقة أخرى هى أن خط الدفاع الأساسى عن مصر ، وعن سيناء، هو خط الممرات فى شرق سيناء.
الأمر السادس - وهو يذكر تعرفه على شخصيتان ستكونان مؤثرتان على مسرح التاريخ المصرى والعربي، وكلاهما أصبح رئيساً لمصر، الأول هو:
البكباشى جمال عبد الناصر: ويذكر فايق أنه التقاه عام 1951 في مدرسة الشئون الإدارية، وكان عبد الناصر مدرساً في هذه المدرسة وكان المشرف على الجماعة التي كان فايق أحد أفرادها هو البكباشى جمال عبد الناصر، والذى كان يُدرس لهم أيضاً (علم التحركات العسكرية).
والشخصية الثانية هي: الطيار محمد حسنى مبارك: الذى التقاه فايق بعد تعينه في قوة الدفاع عن القاعدة الجوية بحلوان، وهناك التقى بالملازم طيار محمد حسنى مبارك، ويقول فايق أنه زامله قبلها أيضاً في الكلية الحربية وقامت بينهم صداقة وتوثقت هذه الصداقة في قاعدة حلوان(وهو ما سيكون له تكملة عندما يتكلم فايق عن دوره في عصر مبارك).
وكان ذلك ملمح سريع رأيته في الفصل الأول من مذكرات السيد محمد فايق (النابغة) ، كما قال هو بالتلميح الذى يرقى لدرجة التصريح فى ذلك الفصل من مذكراته!