عندما التحقت بكلية الطب للمرة الأولى، لم تشتعل أية أفكار جهنمية برأسي، لم أتمنى العثور على سابقة سهى عنها العلماء، أو الوصول لدرجات عالية، لم أنبهر بهذه الأعضاء الأدمية أو العظام البشرية.
كانت المحاضرات مملة جدا، والكتب ثقيلة، وكأنها أسفارًا وأنا كالحمار لا أفقه شيئًا، شعرت أن الطب يشبه زوجة نكدية لا تجيد إلا اعداد الطعام الصحى. طعامًا بلا روح أو مذاق.
دار رأسي في فلك مخصص، فلك مشحون بالألوان والجمال والتلاعب بالألفاظ، أما الأدب فلعوبٌ لطيفة تجيد الغنج والدلال و اعداد طعاما لذيذا وغير صحي، طعامها يتخمني ويكبسُ على أنفاسي. لم يترك متسعا كافيا لأستمتع بالطب كما ينبغي. كانت روايات يوسف السباعي تقشعر أبداني، وتومض وميضَا براقًا بلفائف مخي، بينما تنقطع الأشارات ويظلم عندما يشعر باقتراب ميعاد المحاضرات، أو حين وقع في فخ الامتحانات. اشتعلت أفكارًأ أخرى، ماذا لو اخترعت لونًا أدبيا خاصًا كسيدي يوسف إدريس، أو أصبحت رائدًا للأدب كعزيزي "تشيخوف"، أو أقتنص سلاسة العراب.
أسرحُ وأنغمس في الأدب مثلما أخذ يوسف إدريس بيدي نحو قصصه بتؤدة، يسحبني ببطء، أتلذذ بحلاوة الطعم، يغمر الدوبامين كامل دماغي، أنتشى، ثم أكتشف في النهاية أنني غرقت كلية. في إحدي قصصه حكى عن فتاة تسحبت بعيدًا عن الأنظار لتدخن سيجارة، شعرت بخوفها من أن يجدها أحد المدرسين، تلذذها بالسيجارة، حركاتها العشوائية، كان يصفها وكأنني مكانها، يستطيع أن يغمسك بين طيات قصصه، تنجرف من الحافة بهدوء لتجد أنك في القاع وقد انتهى الابداع تماما، بعدئذ أعود للعالم الرمادي الملئ بكتب الطب والمحاضرات المملة. كان احساسا قاسيا أن أفقد عالمي الملون المفعم بالحياة. تدب الحياة في عروقي عندما أحقنها بجرعتها المخدرة من الروايات والقصص والمقالات، وتذوب وتتلاشى عندما التفت لحياتي الجامعة.
تمنيت أن أتبع خطى سيدي إدريس وتشيخوف، أن أضرب بالطب عرض الحائط وأكتفي بالأدب، رغم تحذيرات أبي الدائمة، الأدب لا يطعم فمًا جائعًا، ألم تسمعي بانجازات مصطفى محمود الطبية؟ الحمد لله أنني لن أشقى على ولايا أو أتكفل باطعام أفواه جائعة، يكفيني أن أسد رمقي من الحياة.
حاولت أن أكتب نصوصًا وفي مخيلتي أنها نصوصًا مفخخة ستجعلني أديبة من الطراز الأول، لكن حينما أعيد قرائتها ، أردد بعصبية: انتاج ردئ لا يصلح للنشر على منصات التواصل الاجتماعي.
أمزق الأوراق، أحتسى المزيد من القهوة_رغم حبي للشاي_ ليزداد حسي الإبداعي والأدبي، أتخم عقلي بالقراءة الدسمة، أحاول استفراغ ما قرأت، أكتب نصوص متخمة بالألفاظ المجعلصة لتأخد منحنى أدبيا ويحترمها الجميع، لكن ذلك لم يقلل من ردائتها، ياله من انتاج ردئ وقمئ. حتى يأست من تحسين مستواي الأدبي واللحاق بسيدي إدريس وعزيزي تشيخوف .
أدركت أخيرا فشل انتاجي الأدبي الردئ وضياع حلمي، لذا اتجهت مجددا للطب كي أسد رمقي على الأقل، وأستطيع العثور على وظيفة عندما أتخرج. لم تشتعل أفكاري أو أتمنى عبقرية يعقوبية، تمنيت أن تمر الأمور بسلام. كنت طالبة عادية، تحزر مجموعا عاديا وتدرس بطريقة عادية وتكتب بطريقة عادية، تيقنت أنني شخص عادي، وسأحصل على أشياء عادية، ربما يُكتب على شاهد قبري
"هذا الشخص العادي الي تمنى ألا يكون عاديا"