تحليل سياسي لانتفاضات الشعوب المسلمة في ما بات يسمى بالربيع العربي: الجزء الثاني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تحليل سياسي لانتفاضات الشعوب المسلمة في ما بات يسمى بالربيع العربي: الجزء الثاني

الجزء الثاني: حل “عقدة الغرب“ عند الشعوب المسلمة شرط أساسي لإحداث تغيير جذري وحقيقي.

  نشر في 29 ديسمبر 2014 .

الجزء الثاني: حل “عقدة الغرب“ عند الشعوب المسلمة شرط أساسي لإحداث تغيير جذري وحقيقي.

إذا ما تأملنا الشعارات و المطالب التي تهتف بها نسبة كبيرة من الجماهير و العديد من الأحزاب و الجماعات في البلدان الاسلامية، و يناقشها أعيان الناس من مفكرين و سياسيين و مشايخ وقياديين لأحزاب وجماعات، ومنها الجماعات الاسلامية، نجد أن غالب هاته الشعارات و المطالب لا يخرج عن منظومة وسقف وضعه الغرب، و ما بات يعرف بالانضباط السياسي. 

والانضباط السياسي هذا يعني أن لا تخرج الأفكار و الآراء عن أفكار الغرب و آراءه، وأن لا يُتَبنَّى أي موقف سياسي و لا فكر في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي يخالف نظرة الغرب و مقاييسه. و كل من يفعل ذلك و يخرج عن الانضباط السياسي فإنه يُغَامِر بأن يُنْعت بالمتطرف و المتشدد و الرجعي و الارهابي، و يجلب عليه بذلك غضب الغرب و أتباعه و عملائه، و ما يترتب على ذلك من ملاحقات. و من هنا يمكن تفسير تجنب البعض لذكر دولة الخلافة و تطبيق الشريعة، و يمكن تفسير الدعوات للدولة المدنية و التعددية و الديمقراطية من قبل شريحة واسعة من الشعوب المنتفضة على حكامها و من قبل العديد من الجماعات و الأحزاب في البلدان الاسلامية. 

فكل هاته الشعارات مقتبسة من الغرب، و هي نتاج لتفكيره و أبحاثه هو حينما خاض فلاسفته و مفكروه صراعا طويلا مع الكنيسة و الملوك الذين استعبدوا شعوبهم قرونا طويلة من الزمن. 

فلما تبنى الغرب فكرة الدولة المدنية مثلا، فقد كان هذا التبني مبنيا على بحث عميق لواقعه هو، توصل على اثره إلى مفاهيم جديدة عن الحياة و الانسان و المجتمع و الدولة. فقد كان لرجال الدين و الملوك السلطة المطلقة. فلم تكن هناك دساتير تحدد صلاحيات الحاكم وحقوق المواطن. فكانت بذلك طبقتا الأمراء و رجال الدين فوق كل قانون والمستفيد المطلق من خيرات البلاد و جهد الفلاحين و العمال و التجار. مقابل هاته الطبقتين كان هناك مايسمى بالطبقة الثالثة أو الوسطى و كانت تتكون من الفلاحين و الحرفيين و التجار، و قد أثقلت الظرائب كاهلهم. وهاته الطبقة هي التي قادت الثورة الفرنسية، والتي كان أهم مطالبها نقل صلاحيات التشريع و الحكم من الملوك ورجال الدين إلى أناس من ممثلي الشعب ليخدموا مصالح هذا الأخير. فبعدما كان للملوك و رجال الدين حقوقا مطلقة و كانوا فوق كل قانون، جاءت الثورة الفرنسية لتضع دستورا يتضمن لأول مرة حقوق الأفراد من المواطنين و التي تشمل على سبيل المثال حقهم في التملك و في مقاومة قمع الدولة و اضطهادها، وحمايتهم من الاعتقال و القضاء العشوائيين. ولذلك سميت الدولة بالمدنية نسبة للمواطن الذي أصبح مصدر السلطات و التشريع، و محور مهامات الدولة. إذن نشأت الدولة المدنية في الغرب كرد فعل على الأحوال التي سادت هناك، حيث لم يكن للمواطن الفرد أي حقوق، ومقابل ذلك كانت للملوك و رجال الدين كل الامتيازات. و لما كانت الكنيسة عنصرا رئيسيا في تكريس تلك الأوضاع و سلب المواطنين أبسط حقوقهم، كان من البدهي أن تُبعد الكنيسة ويُبعد الدين المسيحي و رجاله عن مؤسسات الدولة ولاسيما المؤسسات التشريعية والقضائية. 

إذن من تبنى فكرة الدولة المدنية (او مسمياتها الاخرى مثل دولة الحرية الخ ....) من المسلمين، عليه أن يدرك أصلها و أبعادها، و عليه أن يعلم أن أهم أسسها هو فصل الدين عن الدولة و التشريع.

فهل مشروع الدولة المدنية الذي كان حلا خاصا لواقع معين بأوربا، يصلح أيضًا لحل مشاكل المسلمين؟ ألم يكن على المسلمين أن يشخصوا أسباب مشاكلهم الخاصة بهم و بواقعهم و ايجاد حلول تتلائم وخاصياتهم؟ فواقع العالم الاسلامي في الماضي و الحاضر يختلف تماما عن ماضي أوربا وحاضرها ، وكذلك واقع الدين الاسلامي يختلف تماما عن واقع الديانة المسيحية. فلا يوجد رجال دين و لا كهنوتية في الاسلام مثلا، و بالتالي لا توجد أصلا في الاسلام دولة كهنوتية كما كان الحال في أوربا، و لا توجد كذلك دولة مدنية يفصل فيها الاسلام عن الدولة و التشريع و الحكم. فالدولة حسب الاسلام يجب أن تكون إسلامية، يحكمها بشر بقوانين من الشريعة الاسلامية (أحكام شرعية). وهؤلاء الحكام ليست لهم أي قداسة، ومعرضون للخطإ بل و في اقصى الأحوال يمكنهم ان يرتدوا عن الاسلام! و القوانين الاسلامية أو الأحكام الشرعية هاته يستنبطها مختصون في الفقة الاسلامي أو القانون الاسلامي من القرآن و السنة. و هذا هو شأن أي دولة في العالم، ومنها الدول الغربية، حيث يستنبط فقهائها في القانون القوانين من شريعتهم ‘الوضعية‘ هُم. 

و بخلاف الدين المسيحي الذي لم ينزل بشريعة تنظم الاقتصاد و الحكم و الحياة الاجتماعية و السياسية، فالاسلام نزل بأحكام تنظم جميع شؤون الحياة. فمثلا قد بين الاسلام حقوق الأفراد و جعل حياتهم و أموالهم و أعراضهم حرمة لايجوز لأحد، بما في ذلك الدولة، المساس بها. و للحفاظ على تلك الحقوق الفردية (الحُرمات) وضع الاسلام عقوبات صارمة للقتل العمد و السرقة و القذف. ونظام الاسلام هو النظام الوحيد في الدنيا الذي جعل لرعاياه من ذوي الديانات والعقائد الأخرى، كالمسيحية واليهودية، حق ممارسة شعائرهم الدينية و تنظيم الشؤون الخاصة بأحوالهم الشخصية من زواج و طلاق و مأكل و مشرب حسب ما تمليه عليهم دياناتهم هم. فقد قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أوكلفه فوق طاقته، أو أخد منه شيئا بغيرطيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة“(رواه أبوداود و البيهقي). وقال صلى الله عليه وسلم: „من آذى ذميا فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى الله“(رواه الطبري). وقال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(سورة البقرة، الآية 256). وكان الاسلام هو النظام الوحيد الذي كَرَّمَ فعلا الانسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(سورة الإسراء، الآية 70). كما منع الاسلام التجسس، أحد أعظم أسباب الفساد السياسي و الاستبداد في كل دول العالم، بما فيها الدول الغربية، إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}(سورة الحجرات، الآية 12). ومنع الاسلام التعذيب، و كان أول من و ضع القاعدة الأساسية في القضاء بأن كل متهم بريئ و على المدعي البينة، و لو كان المدعي هذا هو الدولة أو الحاكم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودمائهم، ولكن البينة على المدعي و اليمين على من أنكر“(رواه البيهقي و غيره). ونظم الاسلام الحياة الاجتماعية من زواج و طلاق و حقوق و واجبات كل من الزوج والزوجة والأبناء. كما فرض على الدولة كفالة المأكل و المشرب و المسكن للفقراء والمساكين و الذين لا يستطيعون العمل للنفقة على أنفسهم و أسرهم "الإمام راع ومسئول عن رعيته"(من حديث للرسول رواه البخاري و مسلم)، "من ترك ديناً، أو ضياعاً فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته"(حديث ورد في تفاسير الآية 6 من سورة الأحزاب {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}). و فرض الاسلام على الدولة علاج المرضى و تعليم الناس. و فرض الزكاة تؤخد من الميسرة أحوالهم و من الأغنياء لتعطى للفقراء {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(سورة الذاريات، الآية 19)، "خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم"(من حديث الرسول الذي رواه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن عباس رضي الله عنه). و وضع الاسلام ضوابط لمنع تكديس الأموال عند الأغنياء و احتكارهم لها: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(سورة الحشر، الآية 7). و أوجب الاسلام على الدولة إيجاد مقومات القوة للبلاد من صناعة مدنية و عسكرية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(سورة الأنفال، الآية 60)…. و هذا يستلزم بالضرورة أن توجد المرافق العامة الأساسية التي تخول للناس أن يبتكروا و يصنعوا و ينتجوا، و بالتالي توفر فرص العمل للناس. وكل هاته الواجبات و غيرها مما لم نذكره هو من باب القاعدة الشرعية: “ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب”. وبما أن الحكام و أولي الأمر بشر معرضين للخطأ، فقد فرض الاسلام على الناس محاسبتهم، و حرم عليهم طاعتهم في ظلم أومعصية {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(سورة هود، الآية 113)، و أمر بعزلهم إذا خرجوا عن القواعد الرئيسية للإسلام (المعروف في الفقه الإسلامي بالكفر البواح، حسب حديث الرسول صلى الله عليه و سلم)..... 

أما الواقع السيئ لحال المسلمين اليوم فأسبابه تختلف تماما عن أسباب انحطاط أوربا في العصور الوسطى، فسبب ضعف المسلمين و تخلفهم اليوم هي تلك الأنظمة “المدنية” والبارلمانات العلمانية التي تدير شؤون البلاد بقوانين وَضْعِيَّة بدلا من تحكيم الشريعة الإسلامية. 

إذن، أمام هذا الفرق الشاسع بين واقع العالم الإسلامي ومقوماته وواقع الغرب، على أي أساس يظن الناس في العالم الإسلامي أن النظريات و الأفكار التي طبقها الغرب لحل مشاكله الخاصة به، صالحة أيضا لحل مشاكلهم هم (المسلمين)؟ لماذا لا يأخد المسلمون الحلول من ثقافتهم و علمائهم هم، كما أخد الغرب الحلول من ثقافته و علمائه هو؟ على أي أساس تطغى المطالب لعدم السماح لتطبيق الشريعة الإسلامية و الرجوع للتحاكم بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، رغم أن الإسلام كان هو سر نهضة العرب الذين كانوا يعيشون في جاهلية ليرتقوا في فترة وجيزة الى تصدر الأمم و قيادة العالم لمدة قرون عديدة من تاريخ الإنسانية؟

هل الدعوة للدولة “المدنية” (وهنا لا يجوز استعمال مصطلح الدولة المدنية، كما هو الحال بالنسبة للديمقراطية، إلا حسب المفهوم الغربي) وحصر الإسلام في شؤون العبادات فقط، هل هذا نابع من قناعات وارادة ذاتية، أم هو تقليد أعمى للغرب وحُبًّا لإرضائه؟ فالغرب حين فصل الدين المسيحي عن الدولة و الحكم، فقد كان ذلك قائم على بحث عميق وجاد. فالديانة المسيحية لم تنزل أصلا بأي شريعة لتنظيم الحكم و الإقتصاد و الحياة الإجتماعية. و القساوسة أعطوا لأنفسهم حق التشريع و القضاء والحكم حسب أهوائهم. فكان من البدهي أن يضع الناس حدا لهذا التعسف من قبل الكنيسة و إرجاع الديانة المسيحية لى موضعها الأصلي، ألا وهو تنظيم النواحي الروحانية عند الإنسان و إشباعها. 

أما واقع الإسلام فيختلف تماما. فالإسلام نزل فعلا بشريعة شاملة تنظم جميع شؤون الحياة البشرية. والحاكم ينوب عن الناس في رعاية شؤونهم حسب الأحكام الشرعية، لا حسب ما يهواه. 

إذًا من كان يدعي الإسلام و في نفس الوقت ينادي بفصل هذا الدين عن السياية والحكم والتشريع، فهو غير جَادٍّ في تفكيره و آرائه و مواقفه. فالجدية هو أنه حين تؤمن بمبدأ فإنه من الطبيعي أن تؤمن بكل ما ينبثق عن هذا المبدأ من أفكار و أحكام و تتبناها، ويكون مبدئك هو المقياس لكل أعمالك في الحياة وليس مبدأ غيرك. 

إذًا على المسلمين المنتفضين ضد الأنظمة القائمة في البلدان الاسلامية أن يكونوا جادين في مواقفهم ، فإما يأخذوا الإسلام ككل أو يكفروا به ويأخذوا المبدأ العلماني. فقط في إحدى هاته الحالتين يمكن أن يحققوا تغييرا حقيقيا. لأنه بخلاف المسيحية التي جاءت لتنظم العبادات فقط وبالتالي ممكن لها أن تتعايش مع أي نظام سائد للحكم، فالإسلام نزل بشريعةٍ تنظم جميع شؤون الحياة وليس العبادة فقط، وبالتالي لايقبل الإسلام بالحلول الوسطى التي قامت بها أوربا مع ديانتها المسيحية.

فكثير من المسلمين يحاولون تقليد الغرب في تعاملهم مع ديانتهم، و إيجاد حل وسط بين الإسلام والعلمانية، وهذا أكبر تَيْهٍ يتخبط فيه المسلمون لأكثر من قرن من الزمن، كمن يحاول عبثا أن يقرب الجهتان الموجبتان لقطعتين من المغنطيس من بعضهما البعض فيحصل تنافر شديد بينهما وتبقيا متأرجحتان في مكانهما. كذالك المسلمون متأرجحين في مكانهم منذ عقود من الزمن بسبب افتقادهم للرؤيا الواضحة الصافية. فعلى المسلمين أن يعلموا أنه إنما يُأخذ الإسلام ككل و يطبق في الحياة كله، أو يترك ككل و يكفر به. أي حلول وسطى بين ذلك هي ميوعة و تعبر عن انفصام في الشخصية. 

و الانفصام في الشخصية هذا سببه التقليد الأعمى للغرب. فهو - اي المسلم- رغم حبه للإسلام و قناعته بأنه الحق من عند ربه، إلا أن ولوعه بالغرب القوي أعمى بصيرته فصار يقلده في جميع أحواله. و قد صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. فقلنا: يارسول الله! اليهود والنصارى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن؟“(رواه مسلم والبخاري). 

وقد حلل ابن خلدون ظاهرة تقليد الضعيف للقوي في المقدمة كالتالي: “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده. و السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك و اتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب، و تشبهت به، و ذلك هو الاقتداء. أو لما تراه، و الله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا بقوة بأس، و إنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، و هذا راجع للأول. و لذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها، بل و في سائر أحواله …”. 

إن التقليد آفة جد خطيرة، تُفقد الإنسان شخصيته و تكبل طاقاته و تفقده روح الإبداع و الإنتاج و تسلبه السيادة على شؤون حياته. فالمقلد يفقد القدرة على اتخاذ قرارات ذاتية ومواقف حازمة في أمور شتى من حياته، ويصبح سر وجوده ينحصر على كيفية تحصيل الأكل و الشرب، بل حتى هاته الضروريات تصبح متعلقة بالقوة التي يقلدها و ينظر إليها نظرة إعجاب و يمجدها، فيصبح يعيش على فُتاتها و صدقاتها و عطفها. و مصير الأمة المقلدة هو الفناء حسب رأي ابن خلدون، حيث قال: “إن الأمة إذا غُلِبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء و السبب في ذلك، و الله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها و صارت بالاستعباد آلة لسواها و عالة عليهم، فيقصر الأمل و يضعف التناسل. و الاعتمار إنما هو عن جدة الأمل و ما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل و ذهب ما يدعو إليه من الأحوال و كانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم و تلاشت مكاسبهم و مساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتيهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلب و طعمةً لكل آكل …”. 

إذاً أَنَّا للشعوب المسلمة أن تتحرر و تنهض وهي على ما يبدو مازالت لم تتخلص من عقدة الغرب و مازالت فاقدة للثقة بنفسها و دينها و ثقفاتها و قدراتها، و لا تظن نفسها قادرة على التغيير و علاج مشاكلها من محض إرادتها و قدراتها هي، فتجدهم في كل صغيرة و كبيرة يلجئون إلى الغرب، يطالبونه بحل مشاكلهم و مساعدتهم بالمال و الرأي و السلاح ….. فهاهي تونس “الجديدة” و مصر “ما بعد مبارك” يلهثون، كما فعل حكامهم المعزولين، وراء الغرب ليرضى عنهم، ويشفع لهؤلاء و أولائك ليدخلوا الانتخابات، و ليسمح لهم اعتلاء مراكز في الدولة…، و ليساعد اقتصاديات البلاد، و يمنحهم قروضا …. فأي ثورة هذه و أي تغيير هذا يتكلمون عنه و هم يظنون أنهم لا يستطيعون علاج مشاكلهم إلا بجرعات فكرية و مادية من الغرب، وأنهم لا يستطيعون اعتلاء الحكم في بلدانهم إلا إذا قدموا الولاء للغرب! 

و العجب أن هاته الشعوب المنتفضة و معظم الأحزاب و الجماعات في العالم الإسلامي لا زالت لا تريد أن تعي حتى الآن أن هذه الجرعات التي يتسولونها من الغرب هي جرعات سم وليس دواء، وأن هذا السم الذي يتجرعه المسلمون لعقود من الزمن شل فكرهم و حركتهم و ميع شعورهم وإحساسهم، فأصبحوا فريسة سهلة لكل طامع. فالشعوب الثائرة على حكامها و وضعها المزري في البلدان الاسلامية يجب أن تعلم أن الغرب سبب رئيسي لمشاكلها. فالأنظمة الجائرة المستبدة أوجدها الغرب وسهر على حمايتها و دعمها بكل الوسائل مقابل أن تخدم مصالحه و تسخر له البلاد و العباد، و تمنع وحدة المسلمين و رجوع الإسلام إلى سدة الحكم (هنا وجب التفريق بين وصول الإسلام للحكم و وصول أفراد مسلمين و جماعات إسلامية للحكم لا يطبقون الإسلام و لا سلطة لهم). 

إذن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا بدراسة عميقة و جدية لواقع البلدان الإسلامية و إدراك الأسباب الأساسية و الحقيقية لوضعها المزري، تماما كما فعل مثلا مفكرو الغرب و علماؤه حين درسوا واقعهم دراسة عميقة فتوصلوا للأفكار التي قامت عليها الثورة الفرنسية.

و المدقق في الحركات الشعبية الحالية في البلدان العربية يرى أنها لا تفتقد لقيادة و مبدأ واضح و برنامج سياسي متكامل منبثق من هذا المبدأ فحسب، كما سبق الذكر، بل تفتقد أيضا لإدراك صحيح للأسباب الحقيقية للظلم و الفساد و الاستبداد و الضعف الذي تعاني دولهم منه منذ عقود، و بالتالي تفتقد هذه الحركات الشعبية للجدية في التغيير، رغم التضحيات التي يقدمها الثائرون. و إلا فكيف تفسر مثلا المطالب و الرغبة بإسقاط الأنظمة الحاكمة من جهة، و المطالبة من جهة أخرى بمساعدة الغرب لهم لأزالة هذا الحاكم أو ذاك و لريضى عنهم و يحميهم، و الاستعانة بمؤسسات الغرب من الأمم المتحدة و محكمة العدل الدولية و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ...!

إن الجدية تتطلب البحث العميق، و ليس السطحي، لأسباب المشاكل و الانحطاط في العالم الإسلامي، ثم قلع هذه الأسباب من الجذور. و من أهم جذور المشاكل في البلدان الإسلامية هو تسلط الغرب عليها. فالغرب قد ثبت و لازال يثبت طغيانه و تسلطه على البلدان الإسلامية بوضعه أنظمة عميلة و خادمة له لا لشعوبها، و إنشائه لشبكة واسعة في البلاد من سياسيين و مفكرين و دعاة دين و اعلاميين و اقتصاديين و رجال أمن و عسكريين و منظمات و أحزاب ……… كلهم يسهرون على توطيد واقع معين و رأي عام محدد، رسمه و خطط له الغرب لخدمة مصالحه هو و منع رجوع الإسلام إلى سدة الحكم (و كما سبق الذكر، وجب التفريق بين وصول الإسلام للحكم و وصول جماعات ‘إسلامية‘ للحكم). 

إذن من كان جادا في عملية التغيير عليه أن يعلم أن ذلك لا يتم إلا إذا شمل التغيير ليس الحكام فقط، بل كذلك التبعية للغرب بكل وجوهها، و استئصال تلك الشبكات التي يوظفها الغرب لتثبيت سيطرته على البلاد و تبعيتها له و استنزاف خيراتها. فمثلا المناداة بتدخل الدول الغربية و منظمة الأمم المتحدة، بل حتى الطلب منهم فقط بإدانة عنف الأنظمة السائدة، هو جهل و تبعية للغرب، و إبقاء للأبواب مفتوحة أمام الغرب ليحتفظ بسيطرته على البلاد. فالمجازر التي قام و يقوم بها الغرب، و غالبا تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة، أعظم بكثير من ظلم حكام المسلمين و بطشهم. فإنه من السذاجة و الجهل و عدم المسؤولية حين يستعان بالجزار الأكبر ضد الجزار الأصغر ….! 

كذلك شأن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي، فهما مؤسستان أنشأهما الغرب ليتسلط بهما على اقتصادات العالم و أسواقه و يجعلها مسخرة له و متعلقة به. و من تحكم في الموارد الإقتصادية للبلدان، تحكم بداهة في سياساتها و قراراتها. فمن كان جادا في عملية التغيير عليه إنهاء أي صلة وأي تعامل مع هاته المنظمات. 

و قد يقول ذوي النظر المحدود و العقليات المنهزمة و فاقدي العزيمة أنه لا يمكن لأي دولة الوجود و القدرة على العيش إلا بالتعامل مع هذه المنظمات الدولية و الإستعانة بالغرب. مثل هؤلاء هم من ثبطوا عزيمة الشعوب طوال عقود من الزمن، حين كانوا يقولون لهم إنهم لا يمكنهم النهوض ضد حكامهم و قلعهم، بل و يوحون لهم أن وحدتهم و أمنهم متعلقان ببقاء هذا الحاكم أو ذاك. لكن إسقاط حكام جبابرة مثل حسني مبارك و زين العابدين بن علي و معمر القذافي هو الرد على هؤلاء. 

و قد يظن البعض بأن المطلوب هنا الإنعزال و عدم التعامل مع دول العالم، بما فيها دول الغرب. و هذا غير صحيح. فالمشكلة ليس التعامل مع دول، و لكن في كيفية التعامل معها و على أي أسس. فالتعامل الذي يكون على حساب مصالح الشعوب و سيادتها و مبدئها و على أساس الخضوع لأوامر الغرب و الاستعانة به هو عبودية. و من هذا الذي يرضى أن يعيش عبدا للغير؟! فهذا الحال يجب أن ينتهي. 

إذًا الانتفاضات الشعبية و المظاهرات يجب أن تواكبها انتفاضة و تعبئة فكرية. فكما أزالت الشعوب الخوف من قمع حكامها، و تحررت من هذه العقدة، عليها أن تتحرر أيضا من القمع الفكري و السياسي الذي يمارسه عليها الغرب و طوابيره بشتى الوسائل، فتضرب عرض الحائط أي موقف و رأي من الغرب اتجاه انتفاضتها و أهدافها و نوع نظام الحكم الذي تسعى إليه. فلا تسأل الغرب شيئا و لا تعطي و زنا لما يقول. موقف مثل هذا سيمثل بداية حقيقية و جدية في التغيير و يقفل جميع الأبواب أمام أي تدخل للغرب ليحدد من جديد مصير الشعوب الإسلامية و يُبقي تسلطه عليها و استنزافه لخيراتها. 

إذن على الإنتفاضات الشعبية أن تحدد أهدافها. و لتكن أهدافها مبدئية سامية راقية، و تقلع عنها السطحية. 

فمثلا طالما سمعنا مطالب بإجراء انتخابات برلمانية و رئاسية جديدة …..، و طالما طغى النقاش عن مدة الرئاسة …… هذه كلها مطالب سطحية لا تلمس جذور المشكلة. فكلها تخص وسائل الحكم و آلياته. لكن الأهم و الذي يجب نقاشه و تفصيله و تحديده هو: 

١) ما هو المبدأ الذي يجب أن تقوم عليه الدولة؟ 

٢) نوعية القوانين التي يريد الناس التحاكم إليها، و ما هو مصدر التشريع، و هل ستنبثق الأحكام من المبدأ المتبنى؟ 

٣) من له صلاحية استنباط الأحكام و من له صلاحية تبنيها و جعلها قوانين سارية المفعول في الدولة ؟ 

٤) ما هي صلاحيات رئيس الدولة و صلاحيات المجالس التي تنوب عن الشعب؟ و من يحدد هذه الصلاحيات؟ 

٥) على أي أساس يراد إقامة اقتصاد البلاد و تسييره؟ هل تتم العودة للقروض من الغرب و التعامل مع صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و الخضوع بالتالي لشروطهم؟ أم يتم انشاء اقتصاد جديد مستقل عن هذه المنظمات المالية و مستقل عن العملات الأجنبية و البورصات و تقلباتها؟ 

٦) هل ستقيم الدولة الجديدة اقتصادها و تجارتها عل أساس التعامل بالربا أم ستحدث نموذجا جديدا للاقتصاد و التجارة خالٍ من أي تعامل ربوي؟ 

٧) هل ستقلد الدولة الجديدة الغرب بالاعتماد على جباية الضرائب للنفقة على المرافق العامة و تثقل بالتالي كاهل الناس ذوي الدخل الضعيف أو المتوسط و الذين يشكلون الغالبية الساحقة في كل المجتمعات و يتحملون العبأ الأكبر من مصاريف الدولة، أم ستحدث نموذجا جديدا لكيفية جلب المال تترفع فيها عن استغلال الناس و أخذ مكاسبهم على غير وجه حق و إفقارهم؟ 

٨) هل ستضع الدولة الجديدة إنشاء ثورة صناعية شاملة على قمة أولوياتها للنهضة باقتصاد البلاد و توفير أماكن الشغل للناس و تحسين مستوى عيشهم و إنهاء التبعية و الحاجة المطلقة للمنتوجات الغربية من سيارات و طائرات و تكنولوجية الاتصالات و الاعلاميات و آلات التصنيع و الآلات الطبية و الآلات الحربية و الأدوية ……؟ أم ستسير الدولة “الجديدة” على منهاج الأنظمة العميلة و تعتمد في اقتصادها على السياحة (صناعة الشِّحاذة و التسول د) و الاستثمار الغربي، و تبقي بذلك أرزاق الناس متعلقة بصدقات الأجانب من رعايا الدول المنتجة و فتاتهم و مزاجهم؟ ام ستعمل الدولة على تشجيع و تسهيل استثمار المسلمين انفسهم في بلادهم و تمكين المسلمين من ذوي الطاقات و القدرات العلمية و التقنية و المالية ، تمكينهم من استثمار طاقتهم في بلادهم؟ 

٩) و هل ستضع الدولة الجديدة الأساس لإحداث ثورة صناعية و ذلك بتحديث مضامين و طرق تدريس العلوم التجريبة و إحداث جامعات و معاهد للأبحاث في كل المجالات العلمية، تستوظف فيها طاقات مئات الآلاف من رجالها و نسائها فتحدث بذلك ثورة علمية؟ 

١٠) هل ستأخذ الدولة الجديدة بالأسباب لإحداث هذه الثورة العلمية و الصناعية و إعادة إنشاء أمة ليست مستهلكة فقط لما تنتجه الأمم الأخرى، بل هي نفسها منتجة و يستفيد منها العالم و يأخذ منها، كما كان حالها في الماضي؟ 

١١) ماهي الخطوط العريضة التي ستُبنى عليها السياسة الخارجية للدولة الجديدة؟ هل ستبقى تابعة خاضعة لقرارات الدول الغربية و استراتيجياتها و مصالحها، أم ستستقل عنها و تعمل على خدمة مصالح شعوبها و جعل الأمة الاسلامية مصباحا فكريا و علميا و أخلاقيا تستننير به البشرية جمعاء، فتحمل هي مبدئها للعالم و فكرها و طريقة عيشها، بدلا من هذا الغزو الفكري للغرب عليها؟ و هل ستعمل الدولة الجديدة لتكون هي الملجأ للباحثين عن العلم و الحق و العدل، و تستحمي بها الشعوب المستضعفة و المظلومة و يستجيرها كل مظلوم في العالم …..؟ 

كانت هذه بعض الخطوط العريضة الأساسية التي وجب طرحها و نقاشها و البحث فيها بحثا عميقا و جديا و اتخاذ مواقف واضحة و مفصلة اتجاهها. 

و في الأخير وجب التذكير بأننا كلنا يعرف مآل ما عرف بالثورة العربية الكبرى بداية القرن العشرين حين استعان العرب و تواطئوا مع الغرب ضد الدولة العثمانية. كما أنه مازال عالقا بأذهاننا مآل الثورات الشعبية في خمسينات القرن الماضي و ستيناته ضد الاستعمار. فالتضحية بالغالي و النفيس و استشهاد مئات الآلاف من الثائرين لم و لن تكون أبدا وحدها الضامن للتحرر و تحقيق النهضة. بل الاستعداد للتضحية يجب أن يكون مصحوبا بالمضمون الصحيح و الجاد للأهداف المراد تحقيقها. فالمستعمر الغربي “استجاب” آنذاك (ايام الاستعمار المباشر) لمطالب الشعوب المُسْتعمَرَة، المطالب السطحية للأسف، بإنشاء دويلات وطنية تقوم على أساس جغرافي أو قومي بدلا من الأساس العقائدي. و النتيجة كانت تلك الأنظمة الممسوخة التي أحدثت فراغا سياسيا و أفسدت البلاد و العباد و كان و مازال ولائها للغرب الذي أوجدها لا لشعوبها. فهذا هو مصير كل كيانٍ استعان في نشأته على الغرب لا على شعبه و طاقاته و قدراته الذاتية. و قد صدق الله سبحانه و تعالى حيث قال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(سورة العنكبوت، الآية 41). 

و لَعلَّنا على ما يبدو سنعيش الآن من جديد ولادة دويلات و أنظمة جديدة مسخ مثل سابقاتها أو أكثر منها مسخا، و بيوت عنكبوت جديدة أهون من سابقاتها، إذا لم تع الشعوب المنتفضة خطورة الأمر و لم تع الدروس من الماضي و لم تستفد من أخطاء الأجيال السابقة و لم تصحح مضامين أهدافها، و تختار الطرق و الوسائل الصائبة لتحقيق تلك الأهداف.


  • 1

   نشر في 29 ديسمبر 2014 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا