ثمة أوهام مترسبة في قعر ثقافتنا العربية والإسلامية تجعلنا نتخذ موقفا مسبقا سلبيا من النقد بشكل عام بصرف النظر عن مصدره ومحتواه . مضمون هذا الموقف هو الشك والريبة والاتهام ، دون أن نكلف أنفسنا عناء اختبار ما إن كان النقد جادا رصينا متماسكا , أو مغرضا متهافتا .فكل نقد هو تشويه ، وكل نقد هو هدام ، وكل نقد لا شك أن الأعداء يقفون وراءه ، وحتى إن كان مصدره داخلي وموثوق فهو مرفوض أيضا ، لأنه يُظهر نقاط الضعف للأعداء ، أو يزعزع ثقة الأصدقاء والأتباع !!! وهو عيب ثقافي تدفع أمتنا ثمنه منذ قرون ولا تزال .
من هذه الأوهام وهم الاستهداف الخارجي أو المؤامرة ، ووهم الكمال والاكتفاء الحضاري .
فالوهم الأول (الاستهداف الخارجي أو المؤامرة ) يزرع في نفوسنا التوجس والنفور تجاه كل رأي يحاول أن يمس ثقافتنا من قريب أو بعيد ، بقليل أو كثير ، سواء كانت جهة وروده داخلية أم خارجية ، ويجعلنا نتخذ وضعية دفاعية ، أي أننا ندير ظهرنا لثقافتنا ونتوجه بأبصارنا وعواطفنا – ولا أقول بعقولنا – نحو ما نظنه مصدر تهديد، فلا نعود نرى عيوبنا ومشكلاتنا ،لأنها تصبح خلفنا ، و لأن اهتمامنا يتركز على كيفية رد ما نتوهم أنه عدوان يستهدفها . فهذا الوهم يجعل طاقاتنا الفكرية موجهة نحو الخارج ومشتتة في كل اتجاه ، ويعمينا في الوقت نفسه عن عيوبنا الداخلية التي لا تكف تتفاقم وتتراكم دون أن نشعر بذلك ، أو نشعر ولكننا تستخف ونتهاون . واعتدنا في ظل هذا الوهم أن نعزو كل مشكلة وكل فشل وكل تردٍّ وكل تخلف إلى ذلك الاستهداف الخارجي ، دون أن يخطر في بالنا أن نعود إلى أنفسنا ونفتش خلالها عن مكامن الخلل الذي لا يبرحنا ، مع أن الله تعالى يخاطبنا في كل حين ( قل هو من عند أنفسكم ) (وما أصابك من مصيبة فمن نفسك ) .
وبالطبع لا نريد هنا أن ننفي وجود استهداف أو مؤامرة ، فذلك محض سذاجة لا يقع فيها إلا من أعماه بريق حضارة الآخر ، وشغله عشقه لها وهيامه بها عن الشعور بذلك ، فالمؤامرة موجودة وهي من طبائع الأشياء ، فالأعداء إن لم يتآمروا لن يبقوا أعداء بل سيتحولون إلى أصدقاء ، ولكن جل ما نريد قوله هو أن مرضنا بالمؤامرة هو بحد ذاته وقوع في فخ المؤامرة ، أي أننا باستغراقنا أنفسنا وطاقاتنا في صد المؤامرة ، نقع فيما يراد لنا الوقوع فيه (وهم الاستهداف الدائم )، حتى يستمر عَمَانَا عن جذور مشكلاتنا الحقيقية الثاوية في نفوسنا ،ونستنزف بالتالي طاقاتنا في الهباء ، بدلا من أن نستثمرها فيما يزيدنا قوة ومناعة تجعل المؤامرات تفشل وترتد إلى صانعيها . وهذا من أكبر المؤامرات .
أما الوهم الثاني (الكمال أو الاكتفاء الحضاري ) فقد تسرب إلينا من استشعارنا التماهي مع ديننا،حتى بتنا نعتقد أننا نحن هو وهو نحن ، وأن ثقافتنا هي هو ، وهو ثقافتنا . وبما أنه دين الله ، ومن صفات الله الكمال ، وبما أن الله قد أكمل هذا الدين وكمّله (اليوم أكملت لكم دينكم ) فقد سحبنا هذا الكمال إلى ذواتنا وثقافتنا، وأسبغنا عليها ما لله ولدينه من صفات .
ولا شك أن من يعتقد الكمال ، سيرفض ويتصدى لكل نقد أو حتى محاولة نقد، على اعتبار أن النقد يتضمن اتهاما بالنقص ، أو الخطأ ، وهي عيوب يتنزه عنها الكاملون، فنحن- بحسب هذا الوهم - الذين يحق لنا نقد الآخرين ، وإرشادهم إلى عيوبهم ، ونحن النموذج الذي يجب على الآخرين أن يتطابقوا معه ليضمنوا لأنفسهم الاستقامة والصواب والنجاة . فنحن مُلّاك الحقيقة المطلقة والوحيدة والكاملة التي لا يتسرب إليها أدنى شك ، وما عليه غيرنا خليط من الحق والباطل، أو باطل محض لا خير فيه قط .لذلك فنحن في غنى تام واكتفاء مطلق ، ولا حاجة لنا فيما لدى الآخرين من فكر نسترشد به في بناء نهضتنا والتخلص من مشكلاتنا . هذا في حين أن الحقيقة المطلقة هي ملك لله تعالى وحده، وأن ما يحياه البشر (ونحن منهم ) إن هو إلا تفسيرات وتصورات قد تدنو من الحقيقة ، وقد تنأو عنها ، ولكنها مهما بلغت من العمق لا يمكن أن تحيط بها أو تستحوذ عليها أو تحتكرها ، فالحقيقة عصيَّة على الاختزال في فهم بشري ضيق ، فهي نبع يمتح منه كل البشر كلٌّ على قدر صفائه وشفافيته، وتبقى هي هي دون أن تنقص أو تتأثر ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) و(كل ابن آدم خطاء) كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
عقدة النرجسية الثقافية هذه تتركز في صلب أزمتنا الفكرية ، وفي أساس مشكلتنا الحضارية ، ومالم نتعاف منها ونسترد بشريتنا الطبيعية أي ننظر لأنفسنا بأننا (بشر ممن خلق ) بلا أي استثناءات أو امتيازات ، فلا أمل في نهضة أو تقدم .
إذاً التخلص من ثقافة رفض النقد ، أو التعافي من مرض الوسواس القهري منه وضده ، هو شرط تأسيسي لأي انطلاقة حضارية ، ليس ذلك فحسب ، بل لا بد من نشوء حركة تربوية ثقافية نشطة تستهدف بناء عقل نقدي ذاتي ، بمعنى أنه لا يكفي أن نتحول من رفض النقد إلى تقبله ، فهذا الأمر على الرغم من أهميته القصوى ، يبقى سلوكا سلبيا لأنه يرتهن إلى نشاط خارجي أو غيري، أما العقل النقدي الذاتي ، فهو نشاط إيجابي يشمل النقد الغيري ، والذاتي معا ، أي أنه لا يكتفي بالاستفادة من النقد البراني ، بل ينهض هو بعملية نقد جوانية ، تستهدف الحفر حول جذور المشكلات ، والتنقيب عن مصادر المعوقات التي تعوق نهضتنا وتحول دون مشاركتنا في بناء الحضارة الإنسانية .
-
يوسف المنجدإقرأ وربك الأكرم