– حقوق منسية!
للمرأة حقوق لا تهاون فيها، تتفاوت درجات حقوقها ولكن جميعها تتفق بأن المرأة إنسان لا يكتمل الكون إلا بها، نصف الدنيا؛ بل الدنيا بأسرها. حقها في الزواج الكريم، وحق قلبها أن ينبض برفقة رجل يحترم ضعفها وخوفها، يلتزم أمام الله بالرفق بها والرحمة تجاهها والحفاظ على مودتها دون أن يكسرها أو يسحق أمنها، كذلك حقها في الأمومة وإخراج جيل سوي يرسخ اسمها بحروف من ذهب، وحقها في التعليم واكتساب المعرفة كي تغدو في سبيلها برأس مرفوعة لا يقهرها الجهل أو تفترسها الغفلة ويقتلها شعور الندم على أيام لا قيمة لها!
لم تكن القصة نادرة الحدوث، فكثيرًا ما سمعنا قصص مشابهه من زمن الأجداد. قصة إحداهن ممن قيدتها العادات والتقاليد وقذفتها في منفى الضياع، بعيدًا عن أحلامها ومستقبلها. وفي جلسة صفا وفضفضة، حدثتني أمي عن غياب حق المرأة في التعليم حينما كانت بعُمر الزهور، لاستنتج من سردها أن حق الفتاة في التعليم كان بمثابة المطالبة برحلة إلى القمر، ممكنة ولكنها مستحيلة في آنٍ واحد! ممكنة كونها لم تقتصر على الذهاب للمدارس وحدها؛ بل ساد في القرى الريفية ما يُسمى بـ "الكُتاب"، وهو فصل صغير يجتمع به أطفال القرية كي يتشربوا العلم بوسائل بسيطة ولكنها مؤثرة بإمكانيات العصر الفائت، ومستحيلة لاعتقاد الآباء أن التعليم لن ينفع الفتاة والمُجدي لها أن تتزوج وتشد الرحال لتكوين كيان أسري تحت مبدأ "ستر البنت" في المقام الأول، دون النظر لتغذية عقل الفتاة الذي يؤسس عليه بيت الزوجية بأكمله، ودون الاكتراث بفراغ معرفي جائع لنسمات العلم، ففي غياب الوعي والرؤية، لن تصل الزوجة إلى تعاليم سليمة لأطفالها، وأسلوب منضبط مع زوجها، ومن ثم دمار شامل يعيق من استمرار الزواج والرجوع لنقطة الصفر وكان شيئًا لم يكن!
– جلسة حوار أفرغت الكثير من الألم! وألقت الضوء على قضية هامة
استكملت أمي حديثها عن زمنها غير المعترف بقيمة التعليم قائلة:
“لم أستكمل دراستي كالكثير من فتيات جيلي، لينتهي بنا المطاف عند المرحلة الابتدائية، كان المعتاد أن التعليم هو المحطة الأخيرة في حياة المرأة؛ بل المحطة ما بعد الأخيرة! لا مدارس ولا غيره، في النهاية الزواج هو المأوى وبيت الزوج هو المرحلة الثانية بعد بيت الأب والخطوة الأخيرة في حياة الفتاة”
توقفت قليلًا عند حديثها، وتساءلت: كيف يمكن للمرأة أن تحيا دون أن تفهم؟ دون أن تعي أقل القليل؟ أعلم أن الحياة هي المدرسة الكبرى، وأن الأيام كفيلة بأن تمنحنا من الدروس ما يكفي، وعند الامتحان يكُرم المرء أو يُهان، وما أصعب من امتحان الدنيا! وهو ما عاصرته مع أمي صاحبة الـ 60 عامًا. ولكن في عصرنا الحالي، المرأة دون معرفة ضائعة، لا بوصلة لها تحدد مسارها ومصيرها! اليوم نقف أمام رائدات فضاء وطبيبات ومهندسات وعالمات ذرة، وفي الناحية الأخرى، نجد أنه لا يزال هناك بعض القرى تنحصر في آلة الزمن، تتوقف عند خمسينات وستينات القرن الماضي، لا يعترفوا بتعليم المرأة، على النقيض تمامًا، حالهن رث، لنجد أن أكثرهن لا يستطعن كتابة اسمهن حتى! فكيف تستطيع المرأة إبحار أطفالها على شواطئ العلم إن كانت هي جاهلة لفنون السباحة؟!
أكاد أجزم بأن بذرة العلم داخلهن تنتظر بعض قطرات الاهتمام لترويها؛ لتُثمر أروع العقول، القليل من الهواء كي يدب النبض بقلوبهن من جديد، ولكن الاهمال الإعلامي والمجتمعي تجاههن هو ما يجعل فتيات كثيرات خاضعات لسيطرة الأهالي وتطبيق نظرتهم الضيقة المتحكمة في مسار حياتهن.
– تعليم المرأة.. سلاحها أمام صراع الزمن والجهل
“الزمن غير الزمن، البركة في الأجيال الراهنة، أنتم الأمل في إصلاح ما هشمه السابقون”
قالتها إحدى السيدات التي وصلت من العُمر آخر أعتابه، وبنظرة تنتفض بالأمل المختلط بالحسرة على ضياع أيام أثمن من أن تضيع هباءً، في رسالة منها بالتحذير من الوقوع في فخ التقاليد العبثية، التي لم تجد منها سوى الخراب، اليوم.. تود لو ينقذها مخلوق من قبضة الزمن الساحق لملامحها الفاتنة، فقط لتعود سنوات عتيقة للوراء، بآلة الزمن ذاتها، لتغرق في بحور العلم بصدرٍ رحب، اليوم.. أدركت حقيقة عظمة المعرفة في سحق قيود الجهل، في شباب عقلها وإن شاب شعرها وهرم جسدها وتحللت عظامها، ولكن الوقت قد فات والسبب.. وجهة نظر الأهل المُهلكة.
حق المرأة في التعليم حق لا يمكن السكوت عنه أو الرضوخ فيه، المرأة بالعلم شعاع نور، ودونه تنغمس في الظلام الأبدي بلا خلاص، والمجتمع هو الجاني الأول في جريمة ضياع مستقبل الفتيات العلمي والمهني وحتى على المستوى الأسري، فإن تخلص من المبررات الواهية كالفقر، وعدم توافر تقنيات خاصة بتعليم المرأة، والدفع بها إلى الزواج المبكر السالب لحقها في الطفولة واعتبارها جزء أصيل من المنزل لا خروج منه إلا لشراء الفاكهة والخضروات، حينها يمكننا القول بأن المرأة تمكنت من تحقيق وجودها وبحق، لمس حقوقها بدلًا من الشعارات الفارغة. فالمرأة عقل قبل أن تكون جسد، فكيف نحصر إبداعها المطلق بين زوايا منزلها المحدود؟! كيف نختصر إمكانياتها العقلية في الحياكة؟!
وفي نهاية الحديث، تنهدت أمي متألمة على ذكريات دفينة، وغرقت أنا في تساؤلاتي.. إلى متى يستمر سيناريو دفن الفتيات في مقبرة الجهل؟
بقلم/ نورا محمد