كان شغوفاً بحق.. كان قلقاً بحق.. كان فضولياً بحق.
لربما هذا ما دفعه لفعل ما فعله.
لن نعرف ما هي الأسباب حقاً.
كل ما سنعرفه يوماً انه كان يكره لحظات الوداع لذلك رحل قبل ان يخبرنا بذلك.
اتذكر عندما اخبرني في ايامه الأخيرة بتلك الكوابيس التي تراوده.. كلٌ منا يظهر له شبحه في أحلامه.. كان مستقبله هو شبحه.. هو خوفه الوحيد والأزلي.
علم بأنه داخل فقاعة من الأوهام والأحلام وعندما قرر التمرد والخروج للعالم الواقعي.. ادرك الأمر.
ادرك كم هو سخيف.. كم هو مريب ومخيف ان تظل معلقاً بمستقبلك حتي تنسي حاضرك.
قرر الخروج من تلك اللعبة السخيفة.. قرر عدم الانصياع للقدر مجدداً.
قرر التمرد علي الأمر برمته.
كان أجبن من ان يعترف بالأمر لأحدهم.. لا تزل تلك الكلمات عالقة بذهني عندما اخبرني بأنه سيخوض تلك الرحلة.
تذكرة ذهاب بلا عودة الي الجحيم.. عندما سألته لماذا الجحيم بالذات ؟
اخبرني بأنه علي الأقل لا يخشون الغد هناك.
اخذ يهذي ويهرطق ببضع الكلمات.. تركته غير مبالٍ بما يخبرني به.
اتعلم ذلك الشعور بأنك لا تشعر بأي شئ مؤخرا.. لا بالحزن ولا بالسعادة ولا بالاهتمام للبشر ولا حتي نفسك.
اتعرف ذلك الاحساس الداخلي بأنك اصبحت تمقت الحياة بكل تفاصيلها المزعجة.. بكل ما تفعله لنا.. بكل ما نفعله نحن لها.
اقسم اني عالق في دائرة مغلقة ابدية من الاحداث المتكررة.. اقسم اني اكرهها.. لم اكن كذلك في الماضي ولكني ها هنا الآن.
تذكرت وياليتني لم اتذكر.. محبوس بداخل سجن من الذكريات العفنة التي صنعتها ايدينا.
الندم هو كل ما نشعر به الآن.. الندم هو الحقيقة الوحيدة حالياً في عقلي.
انسحب عقلي تماماً تاركاً دخان لفافة التبغ تحل مكانه.. وتساعده كمية ضخمة من الادرينالين والكافيين المتدفقة في دمي.
انسحب عقلي تماماً وترك اجزاء غير ممحية من الذاكرة.. اجزاء ظننت انني قد نسيتها او حتي انني كنت اتنساها.
ذلك الوغد الصغير لعب لعبته الكبيرة وغادرني بدون إنذار.. غادرني وترك لي صداع نصفي يكاد يفتك بي.
انسحب عقلي تماماً لأنه علم ان كل ما يدور بذلك الجسد الفاني هو الذكريات المؤلمة فقط.
انسحب عقلي تماماً لأنه علم ان كل ما يدور بخلدي هو الانتقام.
ممن؟
الجميع علي ما اظن.
اتذكر رائعة الفنان أحمد ذكي عندما قال ” كلنا فاسدون لا استثني احدا.. حتي بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة ”
وصدقني عندما اخبرك بأنهم قد كانوا يمتلكون اكثر من الصمت.. كانوا خزنة جهنم والقونا في حميمها بدون تردد.
كانوا يملكون ارادة التغيير ولم يفعلوا.. لم يكن فضلا منهم ان فعلوا.
ولكن.. ها نحن هنا.
اندهش من كم الانانية التي استحوذت عليهم.. كخلية سرطانية تهاجم خلايا.
اصبحوا رمزاً لكل ما هو مزري وخسيس ومقزز.
اصبحوا رمزاً للبغض والكره والحقد.
كنا نظننا آبنائهم.. كنا نظننا سنبلتهم الصغيرة التي ستراعنا ايديهم.
ومع اول اختبار.. دهسوا تلك السنبلة بأقدامهم حتي لم يبقي فينا غير شعور بالخذلان والرغبة بالانتقام.
ها نحن هنا.
اتعلم.. لو كنت امتلك القدرة علي العودة في الزمن لأخبرهم الا يخطئوا والا يفعلوا ما فعلوه.. ما عدت ابداً.
الخطيئة قد حلت ويجب عليهم دفع الثمن.
حتماً لن انسي.. سأتذكر كل مرة كنت في حاجة لعون اليهم وخذلوني.. كل مرة كان بإمكانهم تحويلي لشخص افضل ورفضوا وتخاذلوا وتآمروا.
حتماً لن انسي.
كان بإمكانهم فعل الكثير ولم يفعلوا.. اتعلم!!.. سأحفر ذلك اليوم في عقلي.. علي جسدي.. علي كتبي.. علي دولابي.. علي حوائط غرفتي.. علي محرابي.. علي شاهد قبري.
حتي تذكرني اذا نسيت.
لأنه يوما ماً سأعود وحتماً حينئذ لن انسي.