قابيل وهابيل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

قابيل وهابيل

  نشر في 22 ديسمبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

كنت جالسا مع جمع من أبناء جيلي في رواق مقهى السوق أثناء زيارتي للقرية بعد سنين طويلة من الغياب، لمّا عبر إلى الدّاخل شخص يحمل خدّه الأيسر أثر جرح قديم. كان كهلا أشيب ارتسمت على جبينه بقعة سوداء عريضة. كان ينتعل حذاء رياضيا أمريكي العلامة ويرتدي جلبابا أفغانيا قصيرا تحت جاكيتة سوداء. حيّاه أحد الجالسين "صباح الخير عم بشير؟" قبل أن يلتفت نحوي سائلا "ألم تعرفه؟". وقبل أن أجيب، اقترح عليّ صديق آخر أن أتحدّاه كأيام زمان في لعبة ورق، فاعتذرت بـأنّني أفضّل الاكتفاء بدور المتفرّج. وفيما بدأ توفيق يوزّع الأوراق على اللاعبين، التفت أتأمّل بطحاء السوق القديم.

كان ذلك كافيا كي أراني طفلا في العاشرة متطلّعا إلى المجلاّت البديعة المعروضة على باب كشك الشيخ إبراهيم بالليل، ماسكا بمقبضي البرويطة المحمّلة باحتياجات الأسرة من قضية الشهر (السبيسة). كان والدي يحرص على ترصيف المشتريات بشكل فيه جمالية ونظام يستعرض من خلاله للآخرين تنوّع ووفرة ما اشتراه لأسرته. كنت منغمسا في قراءة العناوين، لمّا استرعى انتباهي صراخ وجلبة قادمين من بطحاء السّوق أين تجمهر الناس يتدافعون حول حلقة يلفّها غبار كثيف. وبدافع الفضول، وجدت نفسي ألتحق بالجمع محاولا أن أشق لي منفذا أطلّ من خلاله على وسط الحلقة. لمّا نجحت في ذلك، فوجئت بحلبة مصارعة رومانية بطلاها شابّان أعرفهما جيّدا. أحدهما فرشيشي حديث العهد بالقرية، اسمه بشير وهو جار لنا، يقيم في البرّاكات المعدنية التي أقامتها الكبّانية لإسكان العزّاب المنتدبين حديثا. أمّا الثّاني، فكان الطّاهر لوصيف. شاب أسمر ووسيم، هادئ الطبع ورومنسي. صار نجما معروفا ومحبوبا لدى أهل القرية منذ مشاركته المتميّزة في البرنامج التلفزي "نجوم الغد" حيث أدّى أغنية لعبد الحليم حافظ. يقال واللّه أعلم أنّ له ميولا مثلية. قدّرت في خاطري، ربّما كي لا ينغّص عليّ ضميري لذّة الفرجة، أنّه لا يمكن أن يلتزم كلّ ذلك الجمع بالحياد والاكتفاء بالفرجة دون سبب وجيه يجعلهم يطلقون هذين الرجلين أحدهما على الآخر كوحشين متعطّشين للدّم. فلابدّ أنّ أمرا جللا حصل بين الرّجلين. كان بشير يتفوّق بوضوح على خصمه في البنية الجسدية والعضلية. وكان متعرّقا يبتسم ويدور حول الطّاهر الملقى أرضا، ممهلا إيّاه كي ينهض دون أن يفارقه بعينيه المتّقدتين كالجمر. يبدو منتشيا بسيطرته على خصمه ويتصرّف كما لو كان يؤدّبه. نهض الطّاهر الرّومانسي المسالم مدمى. ومترنّحا استعان بصرخة استلّها من أعماق أعماقه وأطلقها كالجمل الهدّار وعلى فمه مزيج من رغوة بيضاء ودم ساخن، ليفاجأ بشيرا بلكمة جعلت فكّاه يصطكّان ووقفته الثابتة ترتجّ. أحدث ارتطام قبضة الطّاهر الرومانسي المسالم بشدق بشير صوتا مكتوما وحادّا. ومواصلا صرختة الهادرة التي كان صداها يجلجل في أرجاء سوق القرية، انقضّ الطّاهر الرومانسي المسالم بأسنانه على وجه بشير لينتش منه قطعة لحم حي جعلتني رؤياها أغمض عيني من فرط الفضاعة وأنسحب من الحلقة هاربا نحو منزلنا.

في العشية، كانت والدتي لا تزال تكمّد لحمي المزرقّ بفعل سياط حزام والدي الجلدي عقابا لي على فقدان برويطة القضية، لمّا دخلت الخالة تركية العوراء لتخبرنا بمقتل الطّاهر الرّومانسي المسالم على يد بشير الفرشيشي... كان سبب المعركة إصرار بشير على الفوز بقلب عائشة راقصة الفنون الشعبية ومنظفة دار الشعب التي كانت ممزّقة بين رومانسية الطّاهر وفحولة بشير. نال بشير الفرشيشي حكما بالسجن لعشرين سنة، ولم يعد أحد يذكره إلاّ في معرض الحديث عن واقعة موت الطاهر الرمانسي المسالم. ولكنّني خرجت من تلك الواقعة بأسئلة ظلّت تلازمني حتى لمّا غادرت القرية للدراسة بالجامعة: "لماذا لم يتدخّل المتفرّجون من سكّان القرية لفض المعركة؟؟ لماذا اختاروا الفرجة وتلذّذوا بها؟؟ كان يمكنهم إنقاذ بشير الفرشيشي من أن يصير قاتلا. كان يمكنهم إنقاذ الطّاهر الرومانسي المسالم من أن يموت مقتولا. وهاهي نفس الأسئلة تستيقظ في دماغي الآن وأنا جالس في بهو المقهى قبالة السوق القديم...

لمّا عبر أمامي ذلك الأفغاني ذو الجرح القديم الغائر في خدّه الأيسر مغادرا المقهى، تساءلت بصوت مسموع: "ما الذي عاد بالبشير الفرشيشي إلى القرية بعد سجنه؟ لماذا لم يعد إلى أهله؟" أجابني توفيق وهو يوزّع الأوراق على اللاعبين: "الحب يا صديقي، الحب... انتظرته عائشة طيلة عشرين سنة وتزوّجا بعد خروجه من السجن. وها أنت تراه وقد تاب عليه اللّه ورزقه الذرية والمال الحلال."

جلال الرويسي- منّوبة جانفي 2013



  • 2

   نشر في 22 ديسمبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا