عندما كنتُ طفلاً صغيراً كان أقصى طموحاتي في موسم حصاد القمح أن أعتليَّ آلة الحصاد الضخمة التي كانت تلتهم سنابل القمح الذهبية التهاماً كوحشٍ كاسر بلا رحمة ولا شفقة، كانت وقتها تسير وسط حقول القمح كسفينة في عرض البحر، جميلٌ جداً ذلك المشهد، الحقول، الناس تنتظر دور الحصاد، قوارير الماء الباردة وسط الجو اللاهب، أكياس القمح الملقاة على الأرض، سنابل القمح الذهبية فارعة الطول التي كانت أطول مني بكثير!.
وقتها لم أكن أعرف هل كانت حقاً أطول مني أم أن قصر قامتي الطفولية جعلتها تبدوا لي وكأنها عملاقاً كبيراً أمام جسدِ طفلٍ صغير؟!
المهم أن ذلك الطموح لم يتحقق في ذاك الوقت فقد كان محرماً على الأطفال إعتلاء تلك الماكنة الضخمة، حقيقةً كنت لا أعرف وقتها سبب ذلك التحريم أكان خوفاً علينا أم أنه كان للأطفال حدوداً يجب أن لا يتعدوها وأن إعتلاؤها حكراً على الكبار فقط للحفاظ على هيبة الحصاد؟!
على أية حال ظل ذلك الطموح يراودني يطاردني حتى في أحلامي وأخيراً وبعد طول إنتظار تحقق ذاك الحلم الجميل، لكنه تحقق بعد فوات الأوان، فالأشياء الجميلة غالباً ما تأتي متأخرة!
تحقق ذلك الحلم بعد أن أصبحت تلك السنابل أقصر مني بكثير وذاك البحر من الحقول أصبح بقعة ماء صغيرة وتلك السفينة أصبحت زورقاً لايكاد يتسع لشخصٍ واحد وتلك الوجوة التي كانت تُقَيِد حركة الأطفال وقت الحصاد رحلت! لم يبقى إلا القليل، بقايا موسم حصاد، قليل من بركة، كثير من شقاء، وجوهٌ متعبة حائرة تبحث عن المبتور من أشلاءِ أمل بعيشِ حياةٍ فيها قليلٌ من كرامة، نفوسٌ معذبةٌ مرهقةٌ تركض وراء عيشٍ حدَ الكفاف، لكن هيهات هيهات!
فما بين الموسمين خسرنا الكثير وفقدنا الكثير، بلدانٌ دمرت وأوطانٌ أبيدت، أقطارٌ هدمت وقيمٌ نسِفت ومبادئٌ تجزأت، كنا سلة غذاء للعالم فأصبحنا مكباً لنفايات العالم، كنا متقدمين فأصبحنا متأخرين، كنا مزدهرين فأصبحنا متقهقرين، ويأتيك بعد كلِّ تلك الهزائم من يحدثنا عن الأمن الغذائي العربي ويحدثنا عن التقدم و التطور والإزدهار!. فكلما تذكرت ما صرنا إليه من هوان تذكرت قصيدة الراحل نزار قباني بزوجته وحبيبته بلقيس الراوي، حين قال:-
"بلقيس .. يا وجعي ..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى ..
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ؟
يا نينوى الخضراء ..
يا غجريتي الشقراء ..
يا أمواج دجلة . .
تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل ..
قتلوك يا بلقيس ..
أية أمةٍ عربيةٍ ..
تلك التي
تغتال أصوات البلابل ؟
أين السموأل ؟
والمهلهل ؟
والغطاريف الأوائل ؟
فقبائلٌ أكلت قبائل ..
وثعالبٌ قتـلت ثعالب ..
وعناكبٌ قتلت عناكب ..
قسماً بعينيك اللتين إليهما ..
تأوي ملايين الكواكب ..
سأقول ، يا قمري ، عن العرب العجائب
فهل البطولة كذبةٌ عربيةٌ ؟
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟"
J.Y.J
-
jjounidyكاتب اردني
التعليقات
لم يعد للأشياء ذات المذاق ونحن صغار...
لنا الله.