ضُرُّ التّكبُّر
قراءة في شخصية المُتكبِّر ومصيره
نشر في 02 أبريل 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
التٌَكبُّر اصل كل شر وضرر
بقلم. ذ محمد خلوقي
——————-
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد المعلم الحكيم .
ان التكبر والغرور خلل في الشخصية ،يغذيه نفخ وانتفاخ في الأنا الفردي ،بسبب استعدادات وعقد نفسية، و انحرافات في التنشئة السليمة ،اوفي التغذية القيمية والروحية الناقصة ،او شبه المنعدمة في حق المعني بهذه الرذيلة ، اضافة الى طبيعة المحيط الصغير والكبير المساهم بدوره في هذه التنشئة المرضية .
وهذه الهيمنة كالنبتة تبدأ صغيرة الحجم ، وما تفتأ تكبر وتتعالى ،حتى يسود الاعتقاد عند المغرور بان ان لا زَرْع غيره ، ولا نفع سواه .
والتكبر يأخذ اشكالا وانواعا ،لعل اخطرها هو غرور وعنترية المستقوي بامتلاكه كون الحقيقة ، و وسماءالمعرفة، وصنوف التسيير ، واساليب التدبير ، و هيمنته على رزق الحال والمآل ..وتعمى بصيرته اكثر حين يعتقد وهما بان من هم حوله ؛مجرد رعاع من رجال صم ،ونساء بكم ،اسماعهم طائعة ، ورؤوسهم فارغة ،اصطنعهم لنفسه ، كي تكون له مطأطئة خاشعة ، ولاوامره صاغرة ومنفذة ..فيتشدق في حضرة جموعهم الكثيرة بالكلام المردود عليه منطقا وعُرفا ، ووينتشي امام صمتهم المريب بفهمه المنبوذ عقلا ومنطقا ، و ويترنح يمنة ويسرة بشطحاته الجنونية والمرفوضة بالفطرة السليمة .. فيطيل- لساعات يصبح فلكها جد بطئ - خطبَه وتعليقاته وشروحاته وتحليلاته وتوقعاته ، يحوِّل فيها الجمل والتعابير والافكار والاشعار الى وحي منزل ، غير قابل للتبدل والتحول ..والحضور من حوله أصنام وتماثيل صامتة كأن فوق رؤوسها الطير ، او قافلة حمير انهكها الحمل و السير .
وهذه الثقافة الاستكبارية والاستتقوائية ينشرها ويرسخها المستكبر من خلال قنوات من الدعاية والاشهار ، يغذق عليها ،بذكاء وسخاء وتخطيط ، المال والانفاق ويحولها الى ابواق تمجد افعاله، وتدون اقواله ..بل تقنع السذج بان الرزق بين يديه ، والمسك بين كفيه والنعيم على فراشه وتحت وسائده .وتشرعن له كل سبل استعباد الكادحين ..واستنزاف المستضعفين ، وسرقة أرزاف وأفكار الخائفين والخانعين ، ويشتغلون معه ولاجله يبحثون عن هذه الثروات المادية والمعنوية اينما كان مستقرها ومستودعها سهولا وجبالا ، أوبحارا وأنهارا..
وصور المتكبر تتناسل وتتواصل منذ ان خلق الله البشر ، وتزداد استفحالا اذا وجدت الظروف المناسبة لتناسلها ، والبيئة الحاضنة لتوالدها ؛ومن تلك الصور التكبر والاستقواء الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والاسري والعقدي .. وما الى ذلك ..
وحين يسلك المرء المتكبر هذا الطريق، ويتمادى فيه فان القدر نفسه يسهل له سبل الصعود الى الاعلى ،فيصعد ويرتقي رقي قِرْد تسلَّق نخلة في زَهْو ، وهو لا يدري انه بقَدر سموه وعلوِّه تَتَكشَّف مؤخرته ،بل كلما زاد انتفاخا وعلا ارتفاعا أبصر المتأملون ، من أسفل، قُبْح سوْءَته، وكبُر عند الصابرين يقين وقوعِه وردعه وصَرْعِه..
وتدبير الله لحياة المغرور المتكبر لا يفهم حكمتها الغوغاء ولا البسطاء الذين لا يرون الا ظاهر الاشياء ، بحيث يغمسه الله في وَهْم من الثراء والخيلاء والزهو ويبسط له في صنوف الرزق والفكر والقوة ، حتى يعتقد ان لا عقل الا عقله، ولا تدبير الا فعله، ولا حياة دون وجوده ،ثم يسلبه كل شئ او يجعل نهايته عبرة للكل .وينقلها جيل بعد جيل .
والمتأمل لهذه الشخصية التي ترى نفسها فوق الغَيْر في صفات الكمال، والتي تخادع ذاتها ،وتنفخ في نفسها كل صور الاسْتعلاء على الناس .. سيجد كل الجينات الخبيثة قد تجمعت في شخصية (فرعون ) هذا الجبار حين استوفى كل شروط الغواية الاستكبارية ،خرج على قومه قائلا ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غيري )القصص 38
بل قتل الله فيه كل احساس في التدبر البسيط ، فأعلن بصيغة البلادةو التكبر:قائلا (انا ربكم الاعلى )سورةالنازعات 24 .
ولو تدبر هذا المتكبر ومن هُم على شاكلته ،ما يخرج من دُبره من نتانة وعَفَن لاسْتحيى من قوله العجيب ،ولرد نفسه الى الفهم اللبيب ، ولكنها امراض وعقد نفسية حين تستفحل في دواخل الشخصية غير السوية تجعلها بالفعل موضوع دهشة واستغراب لناظرها وسامعها ،لكن حين تعمى القلوب وتنغلق الالباب ،فانتظر كل اشكال العُجْب في سلوك هذا الصنف من البشر ..كأن ينسب كل فضل وصل اليه الى ألْمعية ذكائه و تفرد جهده وقدرته ..ويقنع حَوارييه من المتملقين انه المبدع المجيد ، والباني الفريد ، والمحارب العنيد، ولنا كذلك في شخصية (قارون) خير مثال لهوى النفس وانحرافاتها واستكبارها فقال عنه تعالى : ( (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّـهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) القصص 76
لكن هوى النفس واستكبارَها وغرورها جعله ينسب كل شئ لقدرته وعلمه ((قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)) ) القصص78
وأما عاقبة المستكبرين فهي جد وخيمة سواء في الدنيا أوفي الاخرة .
- ففي الدنيا؛ يلاقي من الناس برودة في التجاوب ،وتبرما وتقززا في معاشرته ، وكُرها صامتا ودفينا بسبب تلك العجرفة يتحينون في شوق زوال جبروته ، كما انه يقاسي ، واقعيا، من انعدام المخلصين وانفضاضهم من حوله،لان من فطرة الله في خلْق الناس، أنهم لا يحبُّون مَن يتكَبَّر عليهم، فيحاول دائما جاهدا ان يستعيد حضوته ، وان يستجدي حبا حتى وان كان مزيفا من الاخرين باستعمال كل وسائله الاستقوائيةً من مال وأبناء و نفوذ و مكانة ، لكنه لا يفلح، فيعيش ظمآنا الى ذاك الحب ،ويموت ضالا عن اي رشد .ولعمري فان هذا أشد عذاب الدنيا ، قال تعالى في هذا المقام {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة 55، كما يسلط الله على قلوب المستكبرين وعقولهم غشاوة فلا يدركون قبح ما هم عليه من ضلال في الفكر والسلوك ، يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146،كما ان المتكبر المغرور يُنسى ذكره بين الناس حال رحيله الابدي عن الدنيا ، بل تجد العباد المقهورين قد تنفسوا الصعداء ، واحسوا بالهناء بعد زوال تكبره وتسلطه وعجرفته ، لان أصل الشرور، من ظلم واعتداء وقهر ،رأسها هو التكبر والغرور .
- اما في الاخرة فقد أعد الله للمتكبر أسوء مستقر وأذل وضع يقول - صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِى صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنِ جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ: طِينَةِ الْخَبَالِ"؛ أى أن الإنسان الذى كان ينظر للناس نظرة اشمئزاز واختقار وتكبر يأتى يوم القيامة فى حجم ذرَّة صغيرة، تدوس عليهم الناس، لهوانهم على الله تعالى، ثم يسقون - والعياذ بالله – من عصارة أهل جهنم، وهى العصارة التى تسمى بــ " طينة الخبال" إمعانًا فى احتقارهم؛ لأنهم كانوا يحتقرون الناس فى الدنيا، فهذا الحديث تقشعر منه الأبدان، ومعناه أن حجمهم فى الدنيا لا يساوى شيئًا، ويُرَدُّوا إلى حجمهم الطبيعى الحقيقى الحقير يوم القيامة، يدوسهم الناس لهوانهم على الله سبحانه وتعالى، ويتجرعون الذُّلُ من كل مكان، فلا يحشرون مثل الذر فحسب، وإنما أيضا أذلاء يبدو عليهم الذل ويظهر عليهم، ثم بعد ذلك إمعانًا فى احتقارهم يسْقون من عصارة أهل جهنم وهو الذى سمى بــ "طينة الخبال".
وختاما نعود من حيث بدأنا. مؤكدين ومنبهين على خطورة هذا السلوك المرضي. والذي يبغى مقاومة شرسة من طرف كل المعنيين من المربين والملاحظين ، من خلال نصحه اولا، ودعوته للمعالجة من مرضه ثانيا ،وان اقتضت الضرورة يجب العمل على استئصال خطورته من جسد المجتمع عن طريق القضاء على البيئة الحاضنة لزهوه وتكبره وغروره ، وكذا عزله عن الشرايين التي تغذيه وتقويه ، فالابتسامة في وجهه حتى وان كانت صفراء فهي تقويه وتغذيه ، والمجاملة حتى وان كانت باهتة فهي الاخرى تنفخ في وهمه وتعليه ..اما من استُضعف فلينكر الامر في نفسه ،فذاك اضعف اصور المقاومة ، وأما من يتحالف معه جهرا وعلانية ،فذاك شيطان اكبر منه .
فنسأل الله ان لا يختم علينا بمثل هذا السلوك، وان يطهرنا من وسخ الكبر وذله وألا يحعلنا جزءا او طرفا من بيئته الثقافية الحاضنة لعلوه واستكباره .
والصلاة والسلام على سيد المتواضعين ومحارب المستكبرين. سيدنا وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام
محمد خلوقي
مراكش ٢ابريل ٢٠١٨