إضطـــراب قلـــم ..
لحظة الصدق الأقوى على الإطلاق , كنت أنت صائدها الوحيد ..
نشر في 02 يونيو 2018 .
أجلس بين الحين والأخر لأترجم افكاري التي لا تهدأ لحظة على تلك الورقة البسيطة التي حتماً لا تفي تلك الأفكار من حقها وقدرها الكبير , ولكني امسك وأحكم قبضتي بذاك القلم وأحضر تلك الورقة وأبدأ في الكتابة , تلك العملية التي تبدو بسيطة للكثير وليس فيها شقاء أو مشقة هي أكثر عمليات العقل تعقيداً على مدار عالمه الكبير الذي لا يخلو من العمليات , منها الحسابية ومنها الفكرية ومنها الإبداعية , وتلك العملية الإبداعية التي تخرج على صورة كلمات قد تشكلت وكونت جُمل والجُمل قد تعانقت وشكلت فقرة والفقرة قد تداخلت فيما بينها وكونت لنا فكرة , وتلك الفكرة خروجها لنا في نهاية العملية هذه ليست بالأمر البسيط , فهي شيئاً معنوياً لا يُمكن لنا أن نلمسه ونتقاذفه كأنما نتقاذف كره القدم مثلاً , وهذ هو بالأمر الغريب ..
كيف لفكرة " بسيطة أو كبيرة " معنوية أن تُشكل علينا ذلك العبئ الفكري وهي ليست مرئية ولا ملموسة ؟! , ما سبب هذا التعقيد الكبير الذي نجده في مجرد كتابة بعض الكلمات الدالة عما يدور في عقلنا الغريب أمره هو الأخر ؟! .. ولماذا لا نستطيع أن نراها أن نلمسها ؟ , مادامت ستخرج لنا في نهاية الأمر في صورة مرئية ويُمكن لمس حروفها وكلماتها عن طريق تمزيق الورقة إن كانت الفكرة لم تُولد بالشكل الصحيح وإعادة المحاولة في إخراجها أو في وضع تلك الورقة المُثقله بالفكر المبدع داخل دفاترنا التي تغرق في أفكار لا حصر لها قد وُلدت بالفعل بنجاح ! .. غريبة حقاً هي تلك العملية الكتابية التي قد تُولد في دقائق معدودة أو في ساعات مُمتده حتى الصباح الباكر , وفي الحالتين أنت لا تقوى على الإنسحاب وتُصر على الإستكمال حتى تطمئن أن الفكرة قد جاءت إلى دُنيا عقولنا المبدعة بسلام ..
هل وجدت مُسيطراً عليك ومُتحكماً فيك مثلما تتحكم وتُسيطر عليك الأفكار ؟ , تمنعك من الإنسحاب من تلك العملية دون أن تستكملها على أكمل وجه , وإن إنسحبت ستجد الأفكار هي الأخرى قد إنسحبت من عقلك واحدة تلو الأخرى , فتضيع وسط الكلمات والحروف ولا تقوى على إسترجاع تلك الفكرة التي لطالما أفاضت على عقلك بالحيرة والعجب والفضول حيالها , فلا تستعجل الرحيل عن تلك اللحظة المبدعة المُتلخصة في الكتابة وترجمة الفكرة , فإن ذهبت بعيداً فستكون أنت الخاسر الوحيد ..
ولكن .. هل راودتك تلك اللحظة أثناء قيامك بهذه العملية التي تجد فيها نفسك غير قادراً على كتابة ما يدور في عقلك ؟ , مُقيد الحركة ولا تستطيع أن تتحرر من تلك القيود حتى في خيالك ؟! .. على الرغم من أن الفكرة تظهر في عقلك واضحة وضوح الشمس ! , وتتنازع على الخروج , ولكنك تقف أمام هذه الحالة الغريبة لا تعرف من أين تبدأ الكتابة ؟ , ولماذا كل هذا وأنا أفكاري في متناول قبضة عقلي ويدي وقلمي ؟! , فتبدأ في صراعات عده , داخلية وخارجية ..
داخلية: تدور في نفسك وعقلك في محاولة لإقتناص أي كلمة ولو بسيطة تبدأ بها , أي حرف يكون مُبتدأ لتشكيل الكلمة التي تود أن تكتبها وتعزم على ذلك , أي دلالة ولو بسيطة على معنى الفكرة , خارجية في صراعاً أقوى : هل هناك فائدة من ذلك المجلس أم أني اُضيع وقتي على الفاضي " حتى وإن كنت قد أفرغت ما في يدك من أجل الكتابة وفقط " ؟! , ولكنك في حالة إزدواجية , بين أن تستمر في جلستك هذه على أمل أن يُزال الغبار عن كلماتك التي لا تعلم ما سبب تقييدها رغم أنها على كامل الإستعداد للخروج وتنتظر منك صافرة البداية فقط , وبين أن تنسحب من تلك الجلسة عديمة الجدوى , فلا شئ يُظهر أنك قد أخرجت الفكرة على تلك الورقة ولا يزال قلمك تضطرب خطواته في ورقتك دون أن يُعلن عن البداية هو الأخر .. فتظل في تلك المعارك ولا تعلم ماذا ستفعل وماذا سينتصر في النهاية .. أنت أم إضطراب قلمك ؟ ..
ولكن إن وجدت تلك اللحظة تحدث أثناء تلك العملية فلا تنزعج ولا تسخط عليها , هي وعلى الرغم من كونها لحظة تجعلك في أقسى درجات إستياءك وإستياء عقلك بأفكاره , هي لحظة جوهرية في لحظات حياتك الإبداعية .. كيف ذلك ؟
لحظة الصدق الوحيدة التي ستخضع لها ستكون هي تلك اللحظة , ما أنت عليه الآن ما هو إلا نتيجة لصدق أفكارك حقاً , فإن كانت مجرد أفكار هشة لا تنم ولا تدل على إبداع ولا غيره فستخرج دون أي جهد , وتُولد ولكنها ستُولد في شهور مُبكرة وهذا حتماً سيُسبب خطراً على مولودنا اليوم " الفكرة " , فبعضاً من العيوب الإبداعية قد تنشأ نتيجة التسرع في الولادة , ولو إنتظرنا حتى يكتمل نضج ونمو أعضاؤه من الفلسفة الذهبية والرقي الفكري لما كان هذا المولود مُشوهاً في تلك اللحظة , فما الداعي من العجله والإستعجال الضار المُضر , بك وبه ومن ثم بعالم الفكر والعقل برُمته ؟! .. فلتنتظر عليه قليلاً حتى يُعلن عن إكتمال نموه وبعدها سُيولد في هدوء وسلاسه والأهم من ذلك في إبداع ومعنى لما يحتويه من أفكار راقية ..
ولحظة الصدق هذه هي أقوى دليل على قُرب نُضجه وتشكله النهائي , ففيها بعضاً من التعب والجهد , ولكن بعدها وإحتمال أن تكون بعدها بلحظات سيخرج هذا الجنين الرائع من عقلك بأروع صورة مُمكنه , تخيلتها أو لم تتخيلها قط , فما عليك إلا أن تنتظر قليلاً لترى مولودك الفكري كما تمنيت أن تراه , ولتعلم جيداً أن لحظة إضطرابك هذه في محاولة ترجمته على ورقك وجعل قلمك يتحرك بسبب تدافعه عليه هي لحظة فاصلة في تاريخك الفكري الإبداعي , وهي الأصدق على الإطلاق , فإن لم تكن تعي تلك الحقيقة فلابد أن تُعيد تشكيل حساباتك أنت من جديد ..
والآن .. تهانينا يا مُفكر , فقد وُلدت لك فكرة خلابة , فكن لها خير جليس ومُرافق ..
التعليقات
حتى يستحيل معها اخراجها من بؤرة التفكير ... لكنك وضعت بل ابدعتى نورا في وضع manual or module لتخطى هذا التخبط ...
لقد اثر فيك علم النفس كثيرا... موفقة دائما
وقد اعجبني ربطك بين الابداع والصدق .. وهذا ملمح مهم في الموضوع لان سحر البيان قد يتكشف زيفه - مع الزمان - امام صدق اللسان .. فكلما كان المبدع صادقا في احساسه وفي غايات ابداعه كلما وجد له في نفس المتلقى اثرا يذكر ، وأما إن كان الغرض هو استعراض عضلات قلمه على اوراق ممدودة وطائعة فلن يبق فوقها الا حبر باهت لن يقو على الصمود والتأثير . نعم ان غاية اي كاتب من وجهة نظري هي ( اولا عمق التفكير وحسن التعبير و بلوغ التأثير أملا في تحقيق التغيير ) .. ودون ذلك فهي خربشات لا تصل مستوى الابداع الحقيقي
حقا لقد استمتعت كثيرا بالمقال بعد ان تخطيت عتبته الاولى ، ودخلت عالمه، فاحسست بنفسي داخل حروفه وكلماته .. اعتز بصداقتك الابداعية الراقية ودام قلمك نديا سخيا بمثل هذه الدرر الثمينة .