حِينَ اغْـتِـراب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حِينَ اغْـتِـراب

يـارا العـــفــيفي

  نشر في 01 يناير 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لستُ الكَبيرة في أخواتي، ولا الصّغرى. أنا "الوُسطَى"، واسمي يارا العفيفي، وُلدت بتاريخ 29 يناير 1993، في مدينة غزة. من أسرة فلسطينية متوسّطة الحال، حالها مثل عموم الشّعب في تلك البيئة النّاكبة والمنكوبة!

ترّبيت مثلي مثل عموم أبناء وبنات شعبي في مدارس المخيمات "مدارس الوكالة" ،، وشهِدت منذ أوائل طفولتي "معهم" على معاني الدّم المُهدَر بكافة أطيافه. "كان دماً ليس ككل الدماء اللاحقة!" .. دم الانتفاضة الثانية ، والألف اشتباك واشتباك!

حياة الفلسطيني معقّدة الشرح .. أن تتربّى وسط تلاحمات كبرى من مصطلحات: المعبر – الحاجز– التّاريخ – الاحتلال –الجيش – السّلطة – الاستيطان – الاتفاقيات – الاعتقال– الاقتحام  الفساد – حقوق الإنسان – الشهداء – الأقصى – التحرير– التطبيع– الأحزاب – الهَدم– القصف – المُطاردة – الدِّين – الحصار – الانقسام– الموت – الحياة – الحقيقة – الوهم– الأمة وآهٍ لأمِّ تلك الأمة من أمة! .. كل هذا يجعلك شخصاً فريداً من وجعه وتعقيداته !

ما عشنا أي تفصيلة كافية لمنحنا لقب "العائشون!" ... كانت كل حياتنا ملطّخة بالدماء والوجع والقهر والالتباس والوهم والأسَف المستمر، والمتمادَى بالسَّواد.

ما عشنا مثل بقية البشر مشهد المطارات والطائرات وهي تُحلّق من فوقنا "بآمان المسافرين" .. بل كانت طائرات الموت، آتية لتجعلنا نحن من نحلّق فوقها "بآمانِ الراحلين!"

ماعشنا المشاهد "الصِّحية" من تربية الأطفال .. تلك التفاصيل التي تجعلني أقف صمتا حينما أضعها بمقارنة وأنا ها هنا بـِ "اسطنبول" تقبع حياتي مع أطفالٍ وأطفال، أُدَرِّسهم وأكون (مربيّة الفصل) على كامل تفاصيلهم !! لله درّ الفروقات .. لله درّ اللعنات والحَسَرات! كيف تربيّنا .. كيف كان يجب أن نتربّى ونكبر!

طفلة .. كنتُ طفلة، عشتُ حياتي فيها ما فيها من البساطة، وفيها ما فيها من التعقيدات والبصمة الخاصة بي دون غيري، مثل كل إنسانٍ فينا دون غيره. 24 سنة كاملة الدّسم هم عُمر ما عشتهم في قطاع غزة .. حتى تخرّجت من الجامعة ، وقد قررت "المغادرة" .. لَم يكن رغبة بالرحيل. كنا في بلاد نأمل فيها لآخر نفسٍ من أعمارنا "الخير" .. كنا حتى آخر رمق ما قبل قرار (الرحيل) عنها نرجو منها أملا! أملَ الحياة .. دون جدوى، دون أي جدوى.

لقد أثْخَنتنا تلك البلاد – قطاع غزة- ضرباً مبرحاً لكامل آمالِ حياتنا، لقد صفعت كافة رغبات العيشِ فينا. من أين نبدأ؟! مُذّ كنا صغاراً وعشنا طفولتنا المُشوّهة من كل معاني الحياة والاستقرار والآمان والحياة "الكريمة" .. أم نبدأ مُذ شهدنا بذاكرتنا الجبروت تلك كيف قاموا بإباحة دمائنا إخوة بإخوة لأجل "مصالح بمصالح " وكيف غَرَفوا لنا شعارات الوَهم مدىً هائلاً من اللعنة، الألف مليون لعنة ولعنة عليهم وعلى أنفسنا حينما جعلنا ما حصل يحصل، وبقينا مشلولين من حينها إلى حد اللحظة!

أم مُذ وجدنا أنفسنا نكبر عاماً فوق عام دون رؤية واضحة ولا حتى لمصير قطة من بيننا حول حالها بعد ساعة من الآن! وليس مستقبل وحياة "فئة شابة" بحالها .. (إلى ما بعد؟ ). فئة تكبر بشبابها لتجد بأنّ ريعانتها لم تعد ولا حتى ضمة بقدونس بحالها! .. لا عمل واستقرار ولا أُسس وقواعد نفسية سوِيّة في مجتمع كامل الاضطراب والخلل والأزمات ... من أين نبدأ؟ بل كيف!

أمَّا بعد،،

مِثلي .. مثل آلاف البشر من قطاع غزة، الذين آمنوا بأنّ تلك البلاد لَم يعدّ منها ولا فيها أي رجاء، الذين عَرفوا بأننا لسنا سوى مجرد "كائنات خشبية" تعيش لتبقى رقماً، وشكلاً يُراهَن على دمِهِ متى يُسفَك فوق الدم بالدم، حين حرب أو مقايضة أو "صفقة" أنذالٍ باعوا لنا الشعارات بيعاً .. باسم الوطن والدّين، باسم كل شيء ملعون، صنعوا من خلاله "مَجدهم" والمزيد المزيد من شعاراتهم الخاصة بـ تجاراتهم .. ومن ثمّ قالوا لنا، وللعالم: هذا ضريبة الفلسطينيين، وضريبة أن يقاوموا ويناضلوا!!

لقد كفَّرُونا .. ! أولئك الذين جعلوا من شبابنا وعمرنا وأوجاعنا رهينة صفقاتهم وشعاراتهم كفّرونا يا الله! جعلونا نكفر بشيء اسمه "الوطن" .. عشنا الأغراب في قلبِ بلادنا، وبعد أن قرر شارون أن ينسحب من أرضنا في قطاع غزة (انسحاب أحادي الجانب 2005م)، وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف نسلّم لاحتلالٍ أكثر دناءة وكذب وقذارة ووهم. لاحتلالٍ ملعونٍ أبو أبوه، واسمه الاحتلال "الأخضر" !

لقد كان الفخّ الأعظم .. ومازلنا ندفع ثمنه لليوم، و لِغدّ وبعدَ بعد غدّ!

" هناك أشكال مختلفة من أعدائِك، عليك أن تثق بأن أولئك الذين من صُلبِ بلدك هم أكثرهم نجاسة!".

وبعد أن استوعبت كل هذا، وتيقّنت مثل غيري الآلاف من قطاع غزة، وكيف أن العمر يمضي "هدراً" ، ومستنَزَفاً بلا أي معنى، كان لا بدّ علينا من قرارٍ بالرحيل. "ما هو مفيش حد يعيش كل هاد ويكون من الطبيعي أن يبقى!".

حينَ اغتراب .. بنتُ في منتصف العشرينات، لها أهلها وناسها ومعارفها، من قطاع غزة، البيئة التي تعتبر نفسها "المحافظة" ،، وتتخذ بعد كثيرٍ من تفاصيل وتحديات وقصص تلو القصص، و"بلا طول سيرة" منحى العيش باغتراب، لوحدها .. إلى تركيا!

هنا .. "على جميع الركّاب المسافرين ربط الأحزمة جيداً استعداداً للإقلاع عبر الخطوط الجوية المصريّة .. " ،،

وكانت تلك أول مرة في حياتي أرى فيها مطار وطائرة! هل أنسى!؟ كيف الشعور ..الشعور الشعور يا الله! كالأطفال .. باكتشافاتهم الأولى. "اللعنة على من صنعوا فينا كل تلك الحسرات والهزائم ".

التوقيت ما بين الإقلاع، والهبوط .. هو توقيت "قرار مصير بأكمله". لَم أتخذه لوحدي. لَم يكن رفاهية، ولا هو إقلاع "سياحة ونقاهة" ،، بل كان (الرحيل). أتعرفون طعمه؟!

للهِ درّ صبرنا ما أصبرنا! .. حتى وإذ هبطنا إلى أرض تركيا، هبطنا إلى ساحات الوغى الأخرى من "حياة"، ذلك الذي كان منتظَر.

"حينما تعرف أنه لَم يعد لديك ما تخسره .. لن تَخَفّ!"

هل كنت أكابر؟ لا أعرف .. البدايات صعبة، البدايات دوماً صعبة. لا شيء سهل. الإنسان الذي لأول مرة في حياته "طائرة" ، ماذا تتصوّرون منه حينما يرى ولأول مرة بلداً أخرى غير "دار خالته" المجاورة والتي يحتاج زيارتها –كفتاة- معاهدات دولية للموافقة بالخروج لها داخل البقعة الواحدة!

مَرّ ما مرّ .. ووجدتُ أنّ كل أشكال الموت الممكنة "هنا" لن تدفع للرجوع خطوة واحدة إلى "قطاع غزة". آمنتُ بأن "النجاح" ليس خياراً. لا، لا بتاتاً. لقد كان ذلك فرضاً، لَم يكن عندي –وعند غيري العنيد – أي رفاهية لاقتحَام غيره!

حينما آتيتُ "هنا" لَم تُفرَش لي الأرض وردا، وجدت أول ما وجدت (الوِحدة)، أنت وحدك يا عمري! .. واجهي .. الحياة بأكملها تفتح لها ذراعيها وتقول لكِ تعالي، هيّا .. تعالي إلى "حقول ألغامي!".

"الذي ينظر إلى نهاية الطريق، الذي يرى نهاية الطريق ويؤمن به .. يعرف تماماً أن الطريق ذاته لَم يعد مهماً!".

حين اغتراب .. حين وِحدة، حين مشاكل وأزمات صعبة، ومسؤوليات دسمة، وتفاصيل كبرى، حين وقوعٍ وسقوط. حين بكاءٍ وقليلٍ من فرح، حين ارتباكٍ، وتماسُك، حين كل شيء .. سوى الهزيمة .. أنتَ يجب عليكَ أن تستمر ..

.

.

#هنا_اسطنبول

#حين_اغتراب

#يارا_العفيفي ( Yara S. Alafifi)

28/12/2020 م


  • 4

  • Yara S. Alafifi
    فلسطينية الهوى والمنشأ، والمولِد الكائن بتاريخ 29 يناير للعام 1993م في قطاع غزة،، وإنّي أَطرقُ لـِ [الحرية] باب.. أو أحاول!
   نشر في 01 يناير 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

ياسر السيد منذ 3 سنة
كتب الله لاهل غزة فرجا قريبا.
1
عمر عبدالرحمن
آمين يا رب و يكون على أيدينا باذن الله
عبد الله منذ 3 سنة
✌️
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا