غلبة اللغة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

غلبة اللغة

غلبة اللغة

  نشر في 12 مارس 2022 .

غلبة اللغة

يقول ابن خلدون قبل أكثر من 600 عاما :

"إن غلبة اللغة , بغلبة أهلها , وأن منزلتها بين اللغات , صورة لمنزلة دولتها بين الأمم"

سؤال يراودني , هل فعلا تكون غلبة اللغة بغلبة أهلها ؟

قبل الدخول في هذه الإشكالية دعونا نحاول فهم زمن ابن خلدون وعلاقته باللغة ولو بشكل عابر , فابن خلدون ولد في أسرة علم وأدب , وهو خريج جامعة الزيتونة , وقد حفظ القرآن في طفولته , وتلقى علم التربية الإسلامية التقليدية , ومع دراسته للقرآن الكريم درس اللسانيات العربية , والحديث والقانون والفقه وعلم التاريخ , وشغل أجداده مناصب سياسية ودينية مهمة , بدأ حياته في مجلس أبو عنان المريني وكان يتولى الكتابة كمؤرخ لعهده وما جرى فيه من الإحداث , ثم انتقل إلى غرناطة ثم أشبيلية , ثم عاد للمغرب ومنها للقاهرة , ومن المعروف أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع , وأول من وضعه في أسسه العلمية الحديثة , ومن المعروف أن له مؤلفات عديدة في الحساب والتاريخ والمنطق , ولكن أشهرها على الإطلاق كتابه ("العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" في سبعة مجلدات أولها المقدمة المشهورة أيضاً بمقدمة ابن خلدون، وتشغل من الكتاب ثلثه، وهي عبارةٌ عن مدخلٍ موسعٍ للكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه في الجغرافيا والعمران (علم الاجتماع) والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن الآخر) .

هل تأثرت مقولة ابن خلدون تلك بالأحداث السائدة والتي عايشها وقتها ؟

عائلة بان خلدون هاجرت من الأندلس إلى تونس نتيجة اجتياح الأسبان لعدد من المدن الأندلسية , كما شهد عصره التراجع والانحطاط في كافة مجالات الحياة , نتيجة لسقوط عاصمة الخلافة العباسية بغداد (1258)م في يد التتار , كما عاش خلافات سياسية وصراعات عديدة , فهناك انقساما شديدا وصراعات في المناطق العربية , فالمماليك استولت صوريا على الخلافة العباسية بما فيها مصر والشام وأجزاء من شبه الجزيرة العربية , واضطربت أحوال المغرب العربي حيث عاش ابن خلدون , فالحفصيون في تونس تحالفوا مع الموحدين في المغرب , وعانت الأندلس من حروب ملوك الطوائف , وعلى المستوى الداخلي سادت الحروب القبلية والفوضى وحروب العصابات حتى داخل القبيلة الواحدة .

وشهدت الحياة الاجتماعية تفككا أخر , فقد سيطرت العصبيات القبلية وأصبحت قوى سياسية وعسكرية مما أشعل حروب التنافس الاقتصادي تارة والسياسي تارة أخرى , أما مصر فقد عانت تحت حكم المماليك وقتها العديد من الأزمات الاقتصادية بسبب الجفاف أو الأوبئة , أو نتيجة الحروب الداخلية والفتن والاحتكار والكساد الاقتصادي , كما أكد ابن خلدون في مقدمته أن نصيب المغرب من تلك الفتن والتراجع العام أكبر بكثير من المشرق العربي نتيجة انهيار الخلافة , ومن الطبيعي أن يؤثر التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على الثقافة والفكر وانتشرت الشعوذة والتضليل والسحر وأغلق باب الاجتهاد في الفقه , وتم هجر الفلسفة والمنطق .

ربما في عصر ابن خلدون كان سقوط الأندلس يتوافق مع بداية ولادة نهضة أوربا , فسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في يد العثمانيين أجبر أوربا لإيجاد طريق جديد للتجارة , "حيث أدت الاستكشافات التي قام بها البرتغاليون والإسبان إلى توجه أوروبا للعالم الجديد والممر البحري على طول رأس الرجاء الصالح إلى الهند، وبشر بعهد الإمبراطوريات الاستعمارية البرتغالية والإسبانية" , ثم سقوط مملكة غرناطة أخر دولة إسلامية في الأندلس .

في ظل كل ما سبق , هل تأثرت مقولة ابن خلدون تلك بتلك الأوضاع المأساوية للعالم العربي وثقافته والتي تتوجها اللغة العربية ؟

وهل لاحظ ابن خلون تزعزع في مكانة اللغة العربية وقتها بسبب بداية غلبت الأمم على العرب , أو توقعاته بسبب تلك الأحوال من ضعف في مكانة اللغة العربية وأطلقها كنبوءة ؟

وهل سيطرت المغول من جهة والمماليك من جهة والعثمانيين من جهة ثالثة على الأقاليم العربية وكونهم غير عرب ومجيدين للغة الضاد ولد عنده تلك المقولة كنتيجة حتمية لتلك الصراعات بين غير العرب على ثقافة العرب ؟

لا شك أن الكثير من نظريات ابن خلدون وبشهادة علماء الشرق والغرب في التاريخ وإخبار الدول والمدن ونشوئها وتطورها ومن ثم زوالها

تحضي بالكثير من التقدير والإعجاب والدقة الشديدة , فواقع الحال اليوم صورة شديدة الواقعية لتلك المقولة التي سطرها منذ 600 عام , فاللغات المسيطرة اليوم هي لغات المنتصرين , ففي كل المحافل الدولية العالمية تكاد تسيطر اللغة الإنجليزية على المشهد العالمي سياسيا وإعلاميا وثقافيا , بل حتى أبناء العرب يتفاخرون بإسقاط مفرداتها بين كلماتهم العربية كنوع من التباهي , وتكاد تلك اللغة أن تسيطر على كافة وسائل الإعلام المرموقة والقوية اليوم , بل حتى (كتالوجات الأجهزة الصغيرة والكبيرة) التي تغرق الأسواق العربية تكاد تخلو من اللغة العربية , بل والأدهى والأمر أن تجد لغات لا يتكلمها 5 بالمئة ممن يتحدثون العربية مدرجة في تلك (الكتالوجات) , وحتى لو وُجهت تلك الأجهزة مخصوصة لدولة عربية لا يتحدث معظم سكانها إلا العربية , والمؤلم أن تجد تلك الأجهزة بمئات الآلاف بيننا وقد اشتملت ضمن اللغات على اللغة العبرية دون العربية في تحدٍ صارخ لقيمنا وكرامتنا وكبريائنا (لو وجد) .

ولك استدراكا للطرح , هل قوة الدولة تضمن قوة اللغة في المحافل العالمية , فلو افترضنا أن أمريكا كقوة حالية وبريطاني كقوة استعمارية سابقة فرضت بمنطق القوة تلك اللغة على غيرهم , فكيف نفسر ضعف اللغة الروسية والصينية (كثقافة عالمية) برغم القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا والصين ؟

هنا لا بد أن نشير أن القوة العسكرية والاقتصادية وحدها ليست كافية , بل قوة الإعلام بكل فروعه وخاصة الكم الهائل من الأفلام الهليودية والصحف العالمية والفنون ووسائل التواصل المختلفة وتطبيقاتها التي اقتحمت حتى الخصوصية بين العائلة الواحدة , وسياسة فتح الجامعات وتلقي التعليم والسيطرة الاستخباراتية والتبعية السياسية لتلك القوى , كلها أذرع أخطبوطية تحيط المجتمع العالم أيا كان , ولا تدع مجالا له بالفكاك من مصيدتها الثقافية , وخاصة أن تلك اللغة اتسمت بسهولة التعلم والنطق وقلة المفردات وسهولة التعبير وعدم الخوض في متاهات لغوية لا حصر لها .

السؤال المؤلم :

ماذا لو لم يهيء الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم كمصدر حفظ لا تفريط فيه , للغتنا العربية هل كانت ستصمد كلغة بشرية برغم كل تلك المحن والفتن واللهجات التي يكاد بعضها يبتلع أي معنى للغة العربية داخل إطاره ؟

إن الله عز وجل تكفل بحفظ القرآن الكريم , وهو بدوره تكفل بحفظ لغة الضاد , فمهما أشكلت عليك لهجة العربي من الخليج للمحيط فيكفي أن تحدثه بالفصحى ليعرف ما تقوله بالحرف الواحد , وربما لو اتكلنا على تلك اللهجات المختلفة لما استطعنا فهم بعضنا البعض غالبا فما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب العشرات من تلك اللهجات التي يغرق بعضها في الغرابة لدرجة لا تفهم , ولكنها تخضع للغة القرآن في لحظات لا تصدق .

ويبقى المستقبل لسيطرة اللغة العربية مرة أخرى كما كان يتلقاها قيصر الروم وكسرى الفرس بحروف عربية مبينة رهن بإرادة الله وبتوفيقه لرجال لا تلهيهم تجارة ولا لهو عن ذكر الله (ذات يوم) لا شك فيه .


  • 2

   نشر في 12 مارس 2022 .

التعليقات

Dallash منذ 2 سنة
احسنت
1
adelmoleh
بُوركت

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا