يحدث في السّاحة... - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

يحدث في السّاحة...

  نشر في 09 يناير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

كلّ صباح يعبر العم حماد الساحة متثاقل الخطو باتجاه دكّانه الذي يفتح على الساحة التي لا تنام... تكون الحركة في تلك الساعة من الفجر قد خفّت، دون أن تنعدم بالكامل. تظلّ بقايا رائحة رؤوس الخرفان المسلوقة في الماء والتوابل وروائح البخور عابقة في الجو كأنّ الجدران والإسفلت قد تشرّبتها وتضمّخت بها... عملة التنظيف البلدي منهمكون في جمع ما تناثر من قمامة في أرجاء السّاحة التي تستعدّ لاستقبال يوم جديد تجلب أثناءه الناس من كلّ أصقاع الأرض، ليتفرّجوا على قارئات الكف ومروّضي الثعابين وباعة الأعشاب وكتبة التعاويذ والراقصات والحكّائين والبهلوانيين... يعرف عم حماد جيّدا أحابيل هؤلاء النصّابين الذين يبيعون الأوهام للسيّاح. ويدرك كذلك أنّ أغلب السياح ليسوا حمقى يسهل استغفالهم. كلّ ما هنالك أنّ هذا المسرح المفتوح في تلك الساحة البديعة بمئذنة جامع الفناء والدّكاكين العتيقة حولها والأزقة المتفرّعة عنها في هذه المدينة الصحراوية المحاطة برياض النخيل، كلّ ذلك يحتاج إلى ممثّلين وكومبارص. يلعب أبناء المدينة وضيوفها أدوارهم بإتقان. "أسلّيك وأدغدغ خيالك، وتعطيني مالك..." عندما يعبر عم حماد الساحة ويصل أمام حانوته العتيق حيث يبيع المناجل والمراتيج والأجلام والصفائح االحديدية التي يدقّها بالمسامير داخل حوافر البغال، يكون قد فكّر بتلك الخواطر للمرّة المليون، حتى غدا ذلك عنده طقسا ثابتا ينشّط به خلايا دماغه. وما هي إلاّ ساعة حتى تغمر الشمس المكان وتضجّ الساحة بأصوات المغنين والمزامير والطبول وتفوح رائحة رؤوس الخرفان المطبوخة وتستيقظ مرّاكش على يوم جديد...

لكز عم حماد في لطف بعكّازه ذلك المشرّد الذي توسّد عتبة دكّانه ونام متقوقعا على نفسه في جلاّبة بالية. استجاب النائم سريعا حتى بدا كأنّه يقظ ينتظر وصول عم حماد. لمّا أطلق تحيّة الصباح معتذرا، انتفض عم حماد وتراجع إلى الخلف وقد فاجأه الصوت النسائي.

واش راكي تديري هنايا ها الشريفة؟ واش اللي بغيت؟

بغيت غير نهدر معاك شوية بعيد على العينين آ عميّ حمّاد.

أسرع يدير المفتاح الثقيل في المرتاج ويزيل العارضة الحديدية الأفقية المشدودة إلى دفّتي الباب. ثمّ فسح لها المجال لتدخل قبل أن يلتحق بها ويغلق الباب وراءهما وهو يستغفر ربّه.

جيتك من جناب اللّه يا عمّي حمّاد. أنا وليّة وبنت هاد المنطقة. راجلي توفّى وعندي زوج ديال الذراري لازم عليّ نكبّرهم. ما لقيت كيف ندير غير نخدم رقّاصة في ساحة الفنا ونغطّي وجهي بالحايك... ولكن آ سيدي الشريف، كائن ناس ما تخلّي حدّ فحالو... كلّ يوم وين نقصد ربّي مروّحة للدّار، يتبعوني الذراري في الزنقة ويبغيوني نسير معاهم... وانا آ سيدي الشريف خايفة لا يحماقوا عليّ وحد النهار ويكشفولي وجهي ويفضحوني...

واخّا آ الشريفة واخّا.... وانا كيف نقدر نساعدك؟؟

كلّ اللي بغيتو، ندخل من باب الحانوت ديالك من جهة الساحة، ونطلع من باب اللور اللي يفتح على زنقة مولاي راشيد. ونسير ف حالي للدار... ونعطيك اللي بغيت من الدراهم، آشي حاجة اللي تناسبنا بزوج...

واش بغيتيني نقولّيك آ الشريفة... لازمني نفكّر في المسألة ومن بعد نجاوبك... ولاكن، نحتاج نعرف إنتيا شكون قبل كل شيء.

لم يتأخر عم حمّاد في الموافقة على طلب مرات البخاري. وهكذا صارت تغادر الساحة مرورا بدكّانه. ثمّ صارت تجلب له أكلاّ من بيتها لأنّه يعيش وحيدا ولا يطبخ دائما. ومع مرور الوقت صارت تترك في الحانوت بعض أغراضها...

يومها اضطرّت فريدة مرات البخاري أن تهرول داخل دكّان عم حمّاد هاربة من سيول المطر الذي غمر الساحة. دفعت الباب نصف المغلق برفق فأنعشها دفء المكان المضاء بنور برتقالي خافت... قد كان عمّ حمّاد جالسا أمام الكور يتدفّأ وهو يضغط في المنفاخ من حين لآخر ليؤجّج شعلة النار. فلم تتبيّن منه إلاّ طيفا أسود لأّن ملامح وجهه لم تكن تظهر في بهرة الضوء. دعاها إلى الاقتراب كي تتدفّأ إلى جانبه دون أن يلتفت. ولكنّها أغلقت الباب برفق وخلعت ملابسها ثم اقتربت لتنشرها أمام نار الكور حتى تجف. جفّ حلق عم حمّاد وأحسّ بنار أخرى أكثر دفئا تسري داخل جسده وتوقظ في مفاصله رمادا خاله قد خمد إلى الأبد.

....

لكز عم حماد في لطف بعكّازه ذلك المشرّد الذي توسّد عتبة دكّانه ونام متقوقعا على نفسه في جلاّبة بالية. استجاب النائم سريعا حتى بدا كأنّه يقظ ينتظر وصول عم حماد. لمّا أطلق تحيّة الصباح معتذرا، انتفض عم حماد وتراجع إلى الخلف وقد فاجأه ذلك الصوت النسائي.

- واش راكي تديري هنايا ها الشريفة؟ واش اللي بغيت؟

- بغيت غير نهدر معاك شوية بعيد على العينين آ عميّ حمّاد.

أسرع يدير المفتاح الثقيل في المرتاج ويزيل العارضة الحديدية المشدودة إلى دفّتي الباب. ثمّ فسح لها المجال لتدخل قبل أن يلتحق بها ويغلق الباب وراءهما وهو يستغفر ربّه.

- جيتك من جناب اللّه يا عمّي حمّاد. أنا وليّة وبنت هادي المنطقة. راجلي توفّى وعندي ذراري صغار لازم عليّ نكبّرهم. ما لقيت كيف ندير غير نخدم رقّاصة في ساحة الفنا ونغطّي وجهي بالحايك... ولكن آ سيدي الشريف، كائن ناس ما تخلّي حدّ فحالو... كلّ يوم وين نقصد ربّي مروّحة للدّار، يتبعوني الذراري في الزنقة ويبغيوني نسير معاهم... وانا آ سيدي الشريف نعرفهم وخايفة لا يعرفوني وحد النهار...

- واخّا آ الشريفة واخّا.... وانا كيف نقدر نساعدك؟؟

- كلّ اللي بغيتو، ندخل من باب حانوتك من جهة الساحة، ونطلع من باب اللور اللي يفتح على زنقة مولاي راشيد. ونسير ف حالي للدار... ونتفاهمو على مبلغ ديال الدراهم اللي يناسبنا بزوج...

- واش بغيتيني نقول ليك آ الشريفة... لازمني نفكّر في المسألة ومن بعد نقول ليك... ولاكن، نحتاج نعرف إنتيا شكون قبل كل شيء.

لم يتأخر عم حمّاد في الموافقة على طلب مرت البخاري. وصارت تغادر الساحة مرورا بدكّانه. ثمّ صارت تجلب له أكلاّ من بيتها لأنّه يعيش وحيدا ولا يطبخ دائما. ومع مرور الوقت صارت تترك في الحانوت بعض أغراضها...

يومها اضطرّت فريدة أن تهرول داخل دكّان عم حمّاد هاربة من سيول المطر الذي غمر الساحة. دفعت الباب نصف المغلق برفق فأنعشها دفء المكان المضاء بنور برتقالي خافت. لم تتبيّن م عمّ حمّاد إلاّ خياله ... فقد كان جالسا أمام الكور يتدفّأ وهو يضغط في المنفاخ من حين لآخر ليؤجّج شعلة النار. فلم تكن ملامح وجهه تظهر في بهرة الضوء. دعاها إلى الاقتراب كي تتدفّأ إلى جانبه. ولكنّها أغلقت الباب برفق وخلعت ملابسها ثم اقتربت لتنشرها أمام نار الكور حتى تجف. جفّ حلق عم حمّاد وأحسّ بنار أخرى أكثر دفئا تسري داخل جسده وتحمي في مفاصله رمادا خاله قد خمد إلى الأبد.

....



   نشر في 09 يناير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا