من النظريات الغريبة التي سجّلها جورج تايلور الإقتصاديّ بجامعة بنسلفانيا قبل أكثر من ثمانين سنة ، ما يعرف بمُؤشر هيملاين ، هذا الأخير الذي يوضّح أنّه كلما كان إقتصاد الدولة جيدًا كلما زاد قصر فساتين و تنانير الفتيات ، و كلما كان سيئا زاد طولها !
تايلور هذا ، لو كتب له أن يتنفّس شيء من أكسجين هذا البلد ، لفهم أن التعميم من أكبر الأخطاء الشّائعة ، و أنّه من الممكن أن نغرق في الأزمة الإقتصادية وأن نُسجّل عجزا مُهما في الميزانية و يظلُّ بشوارعنا نساء يتسكّعن بتنورات و فساتين قصيرة .
و حتما لن نطلب من هؤلاء النسوة أن يُطيلوا قليلا من أثوابهنّ فهنّ لا يعلمن شيء عن مُؤشر تايلور و إن كُن يعلمن الكثير عن مبادىء الشريعة التي يدينون بها !
فالتّعري بزماننا صار يشبه استراتيجية الحرباء ، إذ تجد نفس الأمر قد يكون مُسلّما به في مكان ما و محرّما و منبوذا في مكان آخر ، فالعُري وسط المدينة مجون و في البحر استجمام و أُصول و في التلفاز فن و استعراض و في رمضان خلاعة و ابتذال ..
و هكذا حين ستتأمل حجم التناقضات التي يعلقُ فيها العقل البشري ستدرك أن قصر نظرنا هو أولى بالإطالة من فساتين نسائنا ..
و العري هنا لم يكن سوى خزعة صغيرة من حجم التناقضات التي تنخر جزء مهما من قيمة وجودنا .
فهاهي معظم القنوات التلفزية تسهم بشكل كبير في تشجيع ثقافة التناقض الذاتي و تضمن لنا بذلك تذكرة مدفوعة الأجر لنبتعد بفكرنا عن التفكير !
فمُصيبةُ ما يُعرض من مُسلسلات و أفلام على قنواتنا مثلا ، أنها تجعلك كالحرباء تتكيف مع بعض الأمور و لو كنت بحقيقتك أوّل من ينصب لها العداء و النفور ، تجعلك تتعاطف مع البطلة التي تركها البطل و هي حامل و تنسى أنَّ حملها غير شرعيٍّ و أنها زنت و ارتكبت فعلا يُعدّ فاحشة بديننا ..
و تجد البعض يتعاطف مع الفتاة التي تبكي بطريقة تحزّ في النفوس بعد أن منعها أبوها من الخروج لسهرةٍ ليليّة مع أصدقائها و تنسى أن العقل و المنطق السليم يفرض أن لا تخرج الفتيات ليلا ، لأنّنا لسنا مجتمعا مُتحررا بطبعه و لا دينه و لا حتى عُرفه ..
و تجد البعض أمام هذه المُسلسلات يذرف ما طاب له من الدموع على أحبّة قسَم بينهم الفراق وينسى أن حبّهم تخلله عشق وغرام و أشياء لا يرضاها لنا الرّحمن ..
فخطر هذه المسلسلات و الأفلام أنها تجعلُنا نتبنّى أفكارا ليست لنا نحن ، نُسلّم بأشياء لا نرضاها و لا نحتاج قواميسا لنشرح معناها ..
خطورة هذه الرَّسائل التي يتفاعل قسم كبير من المشاهد معها أنّها دامغة تتسرَبُ لأدمغتنا وتجعل برمجتها على بعض الأمور عملية تفاعلية سهلة ، و طبعا يبقى للموسيقى و الحركات ،الدَّمعات و الكلمات نصيب الأسد في جعلها تبدو شرعيّة !
و خطورة المناخ غير الصحي الذي نتنفسه و لا نُعمل معه في ذلك أبسط قواعد الإدراك التي يفرضها منهج الإستدراك ..أننا لا نعي بعد مدى خطورته و نتعامل معه على أنه ظاهرة بشرية معقّدة ككل الظواهر الأخرى التي لا تعيق استمرار التكاثر على هذا الكوكب ..
و الأمر لا يتعلق فقط بالمبادىء و المواقف ، بل حتى بالإعتبار المعتدل لذواتنا ، فبمجرّد أن تأخد مناقشة هذا المقال بحساسية نوعية أو تدّعي أنك قد توافق بعض التوجهات بتحفّظ نسبي أو تتكهرب خلاياك عند البدء في طرح وجهة نظرك بسرعة فورية ، كن حينها على يقين أنّك حجزت مقعدا ما بين الضفتين ، فلا أنت بالجانب الشفاف و لا بالجانب المعتّم .. لأنك بالحقيقة تكون حينها على أرضية مشوهة يجتمع فيها طرفي نقيض ..
وفي الختم ، العالم مكتض بالبشر .. كن أحد الأحياء !
-
السعدية بن التيس ( صحيفتك فملأها بما شئت )علمية التخصص .. أدبية الشغف !