أداة قتل اسمها السيجارة
استفاق من نومه هذا الصباح عرق الجبين ، تكاد نبضات قلبه تفتك بصدره من هول ما رآه في منامه الليلة ، و تمنى من الله فعلا أن لا يتحقق ما يفكر فيه ، و آثر أن يبقي على شعور الأمل ، بأن ما رآه كان أضغات أحلام لا غير ، غير أن ما رآه تكرر معه بشكل يومي تقريبا ، حتى أحس بالضيق ، هو يعرف أحلامه ، و يعلم حقيقة كونه حفيد جدة ترى الرؤيا فلا يمسي المساء حتى تتحقق بتفاصيلها ، و قد ورث دون أخوانه ، هذا الميراث الثقيل ، و الذي يجعل منه كائنا ليليا ، يعاني مما يراه في أدراج نومه !
رأى فيما يرى النائم ، أباه في أحلى حلة ، يوم عرسه ، في أبهى زينة ، و هو يبتسم ، ابتسامة جميلة ، لم يرها على وجهه من قبل ، و الكل متجمع حوله ، و ينظرون إليه بفرح هائل ، و تكاد أعينهم تلتهم حسنه ، غير أنه ينظر إليه ، و يمعنه بالنظر ، رأى في عينيه الحب كله ، و الجمال كله ، و الحنان كله ، و رأى بحرا من بحور الشعر في عينيه يتغنج ، و شوقا و رمانا و برتقالا و نسائم الربيع ، رأى أشياء لم يشهدها في حياته ، فرآها في منامه !
و كان يستيقظ في كل يوم ، و هو مبتسم مما رآه ، غير أن الرعب ما يفتأ أن يحتل أوتار قلبه ، و علم فيما بينه و بين قلبه أن أباه يتقلب في دروب الألم ، أي ألم ، المهم ، أن مكروها أصابه ، منبع الإبداع لا شك لوثت الآهات مياهه ، فكان حينما يتصل بالمنزل و يسأل عنه ، يقال له أنه في العمل ، أو في الخارج ، المهم أن الأعذار تأتيه من كل حدب و صوب ، مانعة إياه من معانقة صوت والده الحبيب !
فلاش باك
بعد أن قبل يدي والده ، نظر إلى وجهه ، فرأى تغيرا في ملامح وجهه ، و اصفرارا و شحوبا غريبا ، ظن في أول الأمر أنه من أثر الفراق ، و بالفعل ذلك كان ، غير أن الشحوب كان لأمر آخر ! بعد أن عاد أدراجه ، مقدما للسماء ابنه البكر ، تتجاذبه الغربة في بلاد الجرمان ، وصل البيت الخالي من نسائم شاعره المفضل ، و ارتمى على الفراش و بكى بكاء شديدا ، ابكى معه أمه و من حضر ، بكى لفراق فلذة كبده ، أرسلها إلى بلاد بعيدة ، و تركها وحيدة لمصيرها !
كان مدمنا للسجائر منذ صغره ، رافقته طوال أيام حياته ، و شهدت معه ولادة أبنائه الثلاثة ، و كان الأبناء حين الكبر ، يتوسلون إليه أن اقطع صلتك بها ، فيجيبهم بالمشيئة !
حاول و حاول ، حتى أعيت المحاولة كاهله ، فعاد إليها تلك اللعينة !
في ليلة من الليالي ، كان الكل مجتمعا تحت سقف البيت السعيد ، فجاءه خبر وفاة والدته ، و كانت المر الأولى التي يشاهد أباه فيها يبكي ، رباه ، كيف لرجل في الخامسة و الأربعين ، يبكي هكذا على أمه كالطفل الصغير ، أبعد أن أنجب أبناءه الثلاثة ، يبكي هكذا كالرضيع ، غير أنها الأم ، غير أنها المرأة الحنونة التي كانت ، حتى قوب وفاتها ، تأتي و تطرق الباب ، و تسأل ، و تعانق هذا و ذاك ، و تجمع شمل العائلة ! بكى بكاء أبكاه و استنفذ ما في مقله من دموع ، و كانت وفاتها ، شيئا محوريا في حياة والده ، حيث قرر للمرة الأخيرة المحاولة لمقاطعة السجائر ، و كللت محاولته هذه المرة بالنجاح ! فقد أبدى استعدادا لم يبده طوال حياته قط ، و قرر أن ينسلخ نهائيا عن حياته السابقة
بعد مغادرته إلى أرض الجرمان ، أدخل أباه المشفى ، و اكتشف سرطان السجائر برئتيه ، و استأصل الطبيب إحداهما ، و جزئا من الباقية ، و دخل لمدة طويلة ، في انقطاع عن الكلام و النطق ، و الم شديد ، و كان دخوله المشفى ، بداية لأحلامه ، بداية لرؤاه الجميلة ...
السرطان ، ذلك المرض الذي يزحف كرضيع ينمو بشكل سريع ، انتقل من رئتيه إلى باقي جسده ، في سرعة رموش العين ، انتقل بسرعة خاطفة ، خاطفا معه شعر رأس والده السبط بسبب الخضوع للعلاج الكيماوي ! ...
حاول التعايش مع رؤاه ، و حاول تناسيها ، رغم أن شيئا داخليا ، يصر على أن والده لا يمكن أن يكون على خير ، و أن شيئا ما يدور في كواليس بلاده ، يمنعونه من معرفته ، و يحاولون منعه من الإقتراب منه كمريض بالجذام يخاف منه العدوى !
أحس كأن كل من يكلمه يعلم بمرض والده ، و كان يقرأ ذلك في عيون أقربائه في المانيا ، و حينما يسأل يكون الغموض سيد الموقف
في مرة كان مع أحدهم فقال له :
ـ يعقوب ، ألا تفكر في زيارة للبلد .؟
ــ أنا للتو هنا ، لم يمر على مجيئي 3 أشهر ، لماذا علي الزيارة ؟
ــ لا شيء ، ربما تريد أن ترى عائلتك ، هذا ما قصدته !
ــ نعم أريد فعلا أن أراهم ، غير أن علي الإستقرار أولا
ــ حسنا
ــ هل تخفي عني شيئا ما ؟ لا أظن أنك تستطيع أن تخفي عني شيئا ، و إلا لماذا تتحاشى النظر إلى عيوني !!
ــ لا شيء صدقني ، الأمر لا يدعو للقلق !
ــ إذا هناك شيء ، و إن لم يستدعي القلق !
ــ صدقني ، لا شيء لا شيء !
ــ حسنا
و الحق أن والدته أصدرت أوامرها بأن لا يعلم هو بما يحدث ، خوفا عليه من تأثير ذلك عليه ، و انتظرت حتى تحسنت حالة والده شيئا ما ، فاخبرته ذات يوم حين الهاتف
ــ السلام عليك يا أمي
ــ و عليكم السلام يا بني
ــ كيف حالك و حال الأسرة ! أين أبي ...
ــ الحمد لله الكل بخير ، أريد أن أخبرك بشيء ، غير أني أحب أن تتقبله بصدر رحب
ــ خيرا إن شاء الله ؟ ....
ــ والدك مريض بسرطان الرئة ، و أظن مرضه ، هو مرض موته إلا أن يتداركه الله برحمة ، و هو يود رؤيتك ، و يجب عليك القدوم من أجل وداعه الوداع الأخير ! كن صبورا يا بني ، قدر الله و ما شاء فعل !
ــ السجائر ؟
ــ نعم ، هذا قدر الله يا بني ، تداركه قبل أن يذهب !
ــ هل حالته سيئة إلى هذه الدرجة ؟
ــ كلا ، غير أن تجربتي في هذا المجال ، تجعلني أخمن أن مرحلته هذه هي مرحلة ما قبل النهاية ، فكل مرضى السرطان ، يظهر عليه تحسن ملحوظ بفعل الكيماويات حتى يخاله الكل معافى تماما ، غير أن المرض لا يزال يستشري في الجسد !
ــ حسنا هل يمكنني أن أكلمه ؟
ــ ليس الآن ، هو الآن يرتاح !
ــ كم له من الوقت بيننا ؟
ــ الأعمار و الأقدار بيد الله يا بني ، غير أن جسمه سيصمد لمدة عام و نصف عام على الأكثر ، اليوم لا يعرفه إلا الله تعالى ، غير أن الوصف العلمي لحالته هكذا يوصف
انحبست كلماته ، أحس بحرقة ، أحس بدوخة ،و شاهد كل شيء أمام عينيه ... طفولته ، شبابه ، لحظات وداعه ، ابتساماته معه ، كل شيء !
ــ حسنا سابحث عن طائرة ، و أخبرك بالموعد
ــ حسنا ، و نحن بانتظارك !
أقفل الهاتف ، و علم أخيرا معاني ما يراه في أحلامه ، و كان قدره أن يرجع بلاده لأول مرة منذ رحل عنها من أجل أن يكتب السطر الأخير في كتابه المشترك مع والده ، و يترك بعد ذلك كله ، كل شيء للمشيئة ، المهم أن مهمته التي من أجلها سيسافر كانت وداع والده ، وداعا لا لقاء بعده إلا في آخرة الرحمن ! آه يا مصطفى ، أهذا هو اللقاء الأخير ! كيف بالله عليه حبس دموعه في حضرته !
في الطائرة ، كانت ألمانيا تبتعد ، و هو يسد عينيه ، من فرط الألم ، و يتمنى لو أن كل شيء كان حلما ، و سيستفيق منه بعد قليل ، غير أن كل شيء كان واقعا ماديا ! ترجاها أرض المطار أن لا تبتعد ، ترجاها أن تلتصق بجلده ، فهو لا يقدر أن يلعب هذا الدور ، دور المودع الذي عليه ظبط كل شيء ، يودع أحب الناس إليه ، و هو لا يدري ، فوالده أخبر أن المرض زال عنه ، من أجل أن يرتاح ، و لم يعلم أنه مازال يلعب في جسده بشكل أكبر الآن !
استقبلته والدته ، و صديقه الحميم ، و في الطريق إلى المنزل ، حضراه نفسيا للتحول المهول الذي سيراه حقيقة على صورة والده ، دخل الباب ، و كان مصطفى ، يغتسل في الحمام ، خرج ، فرمقته عيناه ، و هرول إليه بدون وعي و ارتمى في حضنه ، عانقه ، و لولا خوفه على جرح صدره ، لكان ضمه أكثر و أكثر حتى تختنق أضلاعه
أين مصطفى الذي اعتاده ؟ أين والده ؟ هذه صورة مريضة من والده ، شعره تساقط كليا ، و أصبح كجثة تتحرك ، غير أنه متماسك ، روحه المعنوية عالية ، كذبوا عليك فقالوا أيها الحبيب ! كذبوا عليك أيها الحبيب ، فجعلوك معافا من مرض لا يرحم !
كانت الفرحة التي رآها في عينيه بسبب وصول ابنه البكر لا تقدر ، و لا يقدر الكاتب على وصفها ، كانت عيناه ، ترقصان ، تنشدان نشيد اللقيا ، فلذة كبده الآن بجانبه ن بعد أن فقد أكثر رئتيه !
خلال الأسبوعين الذان قضاهما بجانبه ، كان تعامله مع أباه يفوق الوصف ، كمن يستغل كل ثانية متبقية له في الحياة ، و هو يعلم أنه مغادرها ، و لولا خوفه على مشاعره لأخبره بالحقيقة ، غير أنه به رفق ! و كان يعقوب حين الليل ، و حين يخلو إلى نفسه يبكي بكاء شديدا ، يبكي الأحجار ، و كان لايستطيع أن يجلس مع والده لفترات طويلة ، لأنه لا يقدر أن يرى آلامه ، خاصة حينما تسوء حالاته ، و يتحول إلى كائن متألم ، فتبدأ الأنهار في الجريان ... يا رب أنا و لا انت يابا ، يا رب أنا و لا انت يا غالي ، يجعل يومي قبل يومك يابا ! يا رب اشفيه يا رب ! يا رب يا رب !
في إحدى الليالي ، كان يعقوب جالسا يتفكر ، و كان والداه بالغرفة المجاورة ، فسمع أباه يخاطب أمه ، بصوت خافت
ــ يا نزهة الزمان ، لماذا لا يأتي مهدي إلي يجالسني ، فأنا مشتاق إليه ، أنا أحبه أحبه ، لماذا لا يجلس معي ، هل ضايقته في شيء ؟
ــ كلا ، هو يحبك أيضا ، غير أنه لا يريد رؤيتك بهذه الحالة تتألم !
ــ الله يرضى عليه
و ناداه مصطفى ، مهدي ، مهدي ، تعال يا بني ، أنا اريد أن أجالسك !
ـ حاضر يا ابت ، سوف أنهي شيئا في يدي و آتي إليك
ــ لا تتأخر فأنا اريد النوم
ــ حاضر يابا
آه يا حبيب القلب لو تعلم كم أنا إليك أشتاق ، و كم أحب أن أجلس إليك غير أني لا أتحمل آلامك ، تخرج من فيك لتدخل قلبي سيوفا تقطع إربا ! تنهك قواي و شبابي آهاتك ، كما تنهك المطرقة الحجر الصلد ! يابا ، يابا ، لو تعلم أن علي أن أودعك وداعي الأخير ، لو كنت مكاني ، يا حبيب قلبي ، ما كنت تفعل يا حبيبي يا حبيبي !
و يذهب يعقوب إليه ، فيحدثه ، و يحدثه ، حتى تذهب عيناه إلى عالم النوم ، عله يرتاح قليلا من آلامه ، كم تمنى أن يدخل يديه في جسمه ، و يجذب المرض المستعصي من تلابيبه ، و يطرحه ارضا ، و يرجع الوجه المشرق الحبيب الجميل !
انقضت الأيام بسرعة البرق الخاطف ، و جاء وقت الوداع ، و انسكبت الدموع بحارا لا أنهارا ، و هو يشم حضن والده ، و يضمه إليه ، و يتشبث بتلابيبه ، خاصة أنه دخل إليه غرفة نومه ، و كانا وحيدين ، فبكى بكاء شديدا أبكى والده ....
ذهب في سفره ، و داخل الطائرة استرجع بعض قواه ، و كان كالنعامة تدفن رأسها في الرمال ، لعدم قدرتها مجابهة ما يحوم بها مهددا ، هكذا كانت حالته ، خال انه بابتعاده عن مسرح الأحداث ، سيكون بمنئى عن الألم الداخلي ، غير أن الوهم كان حليفه ...
خلال الأسبوعين الذان قضاهما برفقة عائلته ، كان الزوار يتوافدون على منزله من أجل الإطمئنان عليه ، و كان الترحاب ممزوجا بنظرات الإشفاق و الحنان ، و كانت رائحة الموت تشم في خطواتهم كما يشم النحل نسيم الربيع المقبل ، حتى كره البقاء في المنزل ، و كره نظراتهم المشفقة ، كأن أباه حتما سيموت ، و أن رحمة الله الواسعة لن تسعه و لا حول و لا قوة إلا بالله ، لم يستسلم هو لمخاوفه ، لم يستسلم لكون المرض ينهش لحم والده ، دون مقاومة أو علاج ، بل ظل طوال الوقت متشبثا برحمة الله تعالى ، رغم أن كل شيء ينذر ببدايات النهاية ، عن سن لا يتجاوز السادسة و الأربعين ! و كان يعلم معنى ذلك ، أشد العلم ، موت في سن السابعة و الأربعين ، يعني أنه سيحرم إلى الأبد في هذه الدنيا ، من شخص عزيز ، كان بالكاد يستعد للإستمتاع معه بحياة أفضل ، كباقي البشر ، كباقي الناس !
و كان والده ، في هيئته الجديدة ، بتساقط شعره ، و ضمور عينيه ، كأنما الموت رشه رشة ، رشة ، توحي إلى الناظر إليه أنه مقضي أمره ، إلى آخرة الرحمن ، كشجرة خريفية ، فقدت جل أوراقها ، و لم يتبقى في فروعها إلا قليل ، يستعد هو بدوره أن يترك مكانه لأوراق جديدة ! غير أن والدته ، آهرت أن تخبره أنه تعافى ، أو أنه في طريقه إلى المعافاة ، فقد كان لا ينام الليل من فرط ألمه الجسدي ، و الفكري ، ليس خوفا من الموت ، بل تفكيرا في أبنائه ، تفكيرا في تقصيره أمام رب العالمين طيلة سنين حياته ، فأخبر أنه على وشك المعافاة ، غير أن شيئا ما كان يخبر يعقوبا ، أن أباه ربما كان يساير أقاويل الناس له ، بل إنه كان يعلم أن أمره ربما في الغيب قد قضي !
و قد لاحظ ذلك في إقباله الشديد على الصلاة و القراءة و قراءة القرآن ، حتى أنه في أيامه الأخيرة كان لا ينام إلا و القرآن ينبعث من في المسجل نديا ، و حينما كان يعقوب يأتيه ، و يدخل غرفة نومه ، تلك الغرفة التي شهدت ولادته و ترعرعه ، يشم رائحة للموت نفاذة ، فكان لا يدخل الغرفة حتى يتوضئ ، لعلمه الشبه يقيني ، أنه سيكون في ضيافة ملائكة الرحمن ، تستعد حينما يأذن الرحمن ، أن تستل روح حبيبه المرحة الحلوة ، و التي ترجى الله دوما أن تكون طيبة !
خلال الأسبوعين كان لقاؤه مع الدكتور الذي يشرف على علاج والده ، أتاه عائدا في المنزل ، و أخبره بسوء حال والده ، و استفسره عن أشياء لم يكن يعلمها ، فعلمها له في وقت كان فيه أشد حاجة إلى خيط أمل يتعلق به ، نعم المرض مستوطن منذ مدة ليست بالقصيرة في جسم والده ، و كانت فترات السعال و الحمى التي كان هو و عائلته يحسبونها نزلات برد عادية ، مبشرات لقدومه ! لم يفاجأ إطلاقا بمرضه ، بل كان يعقوب ينتظره ، انتظار العدو لعدوه ، و كان يعلم أنه أخيرا سيحل ، إذا لم يستر الله جسد والده ، ضيفا ثقيلا ، غير مرغوب فيه ، غير أنه قدر الله ! حتى والدته التي كانت مساعدة طبيب مختصة ، و كانت تمر عليها حالات السرطان أكواما ، و تعلم من الأمر ما لا يعلم ، تشبثت بالأمل ، رغم علمها أن المرض في هذه المرحلة المتأخرة ، يعتبر موتا بطيئا ، يودي بصاحبه ببطئ و ألم شديدين إلى القبر ، حتى دعته إلى البحث في الأنترنت عن مرض والده ، فرمقها بعينين حزينتين ، كأنما يقول لها ، لماذا تهربين من الواقع !! و الواقع أن القريب من شخص مريض بالسرطان ، حتى و إن كان طبيبا مختصا في هذا المرض ، يحاول جهده و إمكانه أن يتناسى ما يعلمه ، و يتعلق برحمة الله التي تسمى في قاموس الطب معجزة ، و قد حصلت غير ما مرة ، غير أن نسبة حصولها ضئيلة ! ضئيلة ، غير أن رحمة الله واسعة !
كره منذ نعومة أظفاره السيجارة ، و تمنى من كل قلبه لو يقلع والده عنها ! الآن هو في مواجهة المرض ! كيف بالله تستحب هذه الخلايا أن تنقلب على هذا المخلوق الحبيب ، الصموت الباسم ، الذي رباه كما تربى البراعم في جوف ليل حقل ! ، كان هذا الشخص ، صموتا بكل ما في الكلمة من معنى ، ربى فيه حب رياضات الدفاع عن النفس ، و إنه ليتذكره حين صغره ، ذاك الحبيب ، الذي وشح نصف بدنه بحزام أسود في لعبة الجيدو ، و كان بالرغم من إدمانه على السجائر ، ذا بنية قوية جدا ، بل إن القابض على ذراعه مثلا ، ليخال أنه قابض على قبضة من إسمنت ! و أنه حينما كان يأتي من العمل ، يشرع في ملاعبتهم ، هو و إخوته ، و يحاولون ما أمكن أن يوثقوه و يمنعوا حركاته ، إلا أن جهودهم كانت سدى تذهب ، بين ضحكاتهم و ضحكاته ، و بريق أعينهم ، و بريق عينيه ، كان يحبهم حبا جما ، لا يطيق هو الكاتب له وصفا ، يحبهم و كفى ، حبا لا يقدر على الشعور به إلا أب مثله ، فالحب الأبوي يختلف من شخص إلى آخر ، يعلو و يخبو ، بقوة الأبوة داخله ! و كبر الإخوة ، و كبرت معهم تضحياته ، و آلام صدره التي أمراضا بسيطة هو خالها ، و عالجها كما يعالج الزكام ، تتكاثر فترة و تخبو أخرى ، مثل قطار ، لا يعلم المرء متى يأتيه !
أخبرته والدته ، أنه و في ذات ليل ، سألها ، أن هل رضي ؟ فأجابته بالإيجاب ، فقال لها :
ــ ذلك ما تمنيته ، فهو رأس مالنا
ــ لا تنسى أبناءك الأخر
ــ كلهم أحبابي ، غير أنه كرأس المال ، أما ترين أنه لم يقرب ابدا أصدقاء سوء ، و أن جل وقته يقضيه بين الكتب !
ــ الحمد لله ، كان أول فرحتنا ، أسال الله أن يستره
ــ اللهم آمين ، حبيب قلبي المهدي ...
استمع لها بعينين مغرورقتين ، و خرج إلى أصحابه !
حتى أصحابه الثلاثة الذين أحبهم ، و أحبوه أحس في عيونهم بإشفاق نحوه ، حبيب ، حبيب حب النسيم للورود ، و قد لاقى في أحضانهم الدفئ و المواساة التي بحث عنها ، كان زكريا ، هشام و أنيس ، أحبابه بعد عائلته و صديقه الحميم ، لم يكن في حياته كلها ، حتى هذه الأسطر يحبذ أن يكون له أصدقاء كثر ، ينتقي اصحابه كما ينتقي الأزهار يشمها ، لا يختار إلا الجميل منها و الطيب !
كان الموت يحيط به من كل ناحية ، و قد بدأه بضربة موجعة ، حينما أخذ روح صديقه الحبيب زكريا رحمه الله ، في حادث أليم ، و استطاع والده أن يذهب لعزائه ، و يبكي من أجل صاحب ابنه ...
ودعه صاحبه ووالدته ، و هو يوصيها بأبيه خيرا ... تحركت الطائرة ، حركة البسيط ، و ترجى الأرض كما ترجاها في ألمانيا ، أن تلتصق بجلده ، من أجل أن يوصل أباه إلى قبره ، غير أنه قدر الله ، لعله كان خيرا له أن لا يبقى بصحبة ألمه لفترة أطول ، لعله خيرا ، أن لا يرى حبيب عمره يموت بين يديه ...
وصل المطار ، خرج منه كهائم في دنيا لا يعرفها ، و هو يسترجع ما عاشه في بلده ، و دموع والده التي أغرقت خده قبل الذهاب ، كيف بالله كيف أحب أن يبكي والده ، أن يذهب بعيدا بعيدا ، في حين كان هو يرجوه أن ابق إلى جواري !
دخل منزله ، و استشعر برودة في أوصاله ، و دخل في نومة أوصلته إلى سراديب الفجر ، قام ، و لم يعد إلى نومه ، حتى التحق بعمله ، فكان رئيسه بانتظاره :
ــ كيف الحال يا يااكوب
ــ الحمد لله ، زرت والدي
ــ كيف حاله ؟
ــ مريض يا ديتمر ، إنه يموت !
ــ متأسف من أجلك يا يااكوب ، هل تريد المزيد من الراحة ؟
ــ كلا كلا ، شكرا لك ، لم ار فعلا في حياتي رئيسا للعمل مثلك ، أنت رجل رائع !
ــ هذا أقل ما يمكنني فعله ، أتمنى لو كان بإمكاني المساعدة في شفاء والدك ، و لكنه السرطان !
ــ نعم !
ــ لم لا نأتي به إلى هنا ؟ أظن الأطباء هنا في هذا الإختصاص أكثر براعة ، مع احترامي لبلدك !
ــ نعم معك حق ، و لكن أظن أن المسألة مقضية ، الإتيان به إلى ألمانيا زيادة في تعبه فقط ، أحبذ أن يموت في بلاده !
ــ متأسف حقا !
ــ المهم سأذهب للعمل !
ــ حسنا ، و إذا احتجت أي شيء ، فأنا في الخدمة
ــ شكرا لك يا ديتمر !
كان زملاؤه في العمل على اطلاع بخبر مرض والده ، فقللوا نسبيا من نوبات الضحك و السخرية ، مواساة له ، حتى أخبرهم أن عودوا لطبيعتكم ، فلا يجب عليهم تذكيره دائما بما يحدث ، حتى و إن كان ذلك لا يفارق عقله !
عاش خلال أشهر ، أقسى حالاته ، كان كأي إنسان دخل في دوامة إحباط لا متناهية ، كمتاهة سوداء لا يعرف داخلها لها مخرجا ، تجذبه أشواكها بقوة ، و ترجه على الأرض رجا عنيفا ، و لا يدري لها نهاية ، أصبح أكثر انطواءا على نفسه ، منغلقا ، لا يكلم أحدا إلا في نادر الأوقات !
في يوم من أواخر أيام شهر ابريل ، رن هاتفه ، و كان كلما رن الهاتف ينقبض قلبه ، خاصة إذا رأى معرف بلده الدولي ...
ــ السلام عليكم !
ـــ و عليكم السلام يا بني
ــ أهلا والدتي ، خيرا ، هل من جديد ؟
ــ يا بني ، والدك دخل في غيبوبته الأخيرة و أردت إخبارك ، و كان آخر شيء أراده قبل أن يغيب عن الوعي أن يراك !
كانت الرسائل في يديه أكواما ، فتركها على الأرض تسقط ، و اختنقت عبراته ...
ــ حسنا ، سأرى كيف يمكنني أن أجيئ
ــ لا بأس إذا كنت لا تستطيع !
ــ كلا ، سوف آتي ! هل حالته سيئة حد الغيبوبة !؟
ــ صمد جسمه العام و الشهرين ، ادع له أن يتداركه الله بقبض روحه يا بني !
ــ سيشفى بإذن الله يا والدتي ، رحمة الله واسعة !
ــ قضي الأمر يا مهدي ، والدك لا رجعة له إلا في آخرة الرحمن !
ــ حسنا سآتي غدا في أول طائرة بإذن الله ، قولي له أن ينتظر ، قولي له أن ينتظر !
أكمل عمله ، و لم يدر كيف ، و أسرع الخطى نحو المنزل ، و أعد حقيبته ، و ذهب إلى المطار ، و لحسن قدره وجد مقعدا في طائرة ، ذهب إلى أقرب مخدع هاتفي ، ركب رقم ديتمر ...
ــ أهلا ديتمر أنا يااكوب
ــ أهلا يااكوب
ــ أبي دخل في غيبوبة ، و يريدني أن اراه ، أعلم أنني ....
قاطعه ديتمر
ــ هذا أمر لا يستحق أن تهاتفني من أجله ، اذهب ، عندك أسبوع ، ثم ارجع ، سأتدبر أمر من يوصل رسائلك !
ــ لا أعرف كيف أشكرك !
ــ لا تشكرني ، أعلم الإحساس الذي أنت فيه الآن تسبح ، فأنا أيضا فقدت واالدي !
ــ حسنا ، القاك بعد أسبوع !
حطت الطائرة في مطار بلاده ساعة الغروب ، وكان في انتظاره أخوه الاصغر برفقة صديقة الأمين ، أوصلاه إلى المنزل ، دخل ، و كان يعقوب كث اللحية ، تكاد تضرب إلى عنقه ، فوجد في انتظاره أمه ، و جدته لأمه ، و خالاته ، و أخته ، سلم ، و دموعه في عيونه ، و قصد غرفة نوم والده ، ترك كل شيء ، و قصد غرفته ، دخل الباب ، و احتضنه ، فكان كدمية ، كجثة ، مرمية هي على هذا الفراش ، لا يقوى حراكا و لا كلاما ، مغمى عليه ، لا يبقيه على قيد حياة إلا النفس
رباه ، أيها الجميل افتح عينيك ، عاد إليك شعرك ، عدت كما كنت قبلا ، جميل أنت ، لا يزال شعرك الأسود يزين صفحة وجهك ، جميل أنت ، غير أن المرض قضى عليك ، أجبني بالله عليك ، ضمه إليه ، هزه برفق ، هزة خفيفة ، فتح مصطفى عينيه ، فلم يصدق يعقوب ، بادره بالسؤال :
ــ عرفتني ، ابي ، عرفتني ؟ ، أنا مهدي ، أنا مهدي ، أنا جئت ، أتيت إليك ، ها أنذا أتيت ، كما طلبت أيها الحبيب ، ها أنذا أمامك يا حبيبي ، انظر إلي ، انظر إلى لحيتي ، كم هي جميلة ، أليس كذلك ؟ كان يكلم نفسه ، كأحمق ، كمعتوه ، يتكلم بدون انتظار الإجابة ، يتكلم و دمعه يتطاير
لم يجب ، غير أنه ابتسم ، ابتسامة شاحبة ، ابتسم ابتسامة أحيت فيه روحه ، هل عرفه ؟ هل أدركه ؟ ابتسم ، ثم ذهب في غيبوبته مرة أخرى ، ربتت والدته على كتفه ، أن اخرج ، فخرج يبكي ، و كان كل من دخل تلك الغرفة ، يخرج أحمر العينين ، و كان عمه ، ياتي ، و يدخل إلى غرفته ن فيبكي ، و يبكي حتى يستنفذ البكاء ، و هكذا حاله كل يوم !
مر الأسبوع ، برقا ، و في كل يوم كان يحاول إيقاظه ، و كان يتلو عليه القرآن فيفتح عينيه ، و يبتسم له ، غير أنه لا يتكلم ، غير أنه لا ينطق ، و كان صوته حين يتلو آيات الله يمتزج بالبكاء فيغمض عينيه خوفا عليه أن يبصر دموعه ! هو الذي حارب كل حياته من أجل أن يراها ، أيريها له الآن و هو طريح الموت ؟
يوم قبل الرحيل ، بدأت غرغرته ! بدأت غرغرته ، غائبا عن الوعي كان ، لم يتحمل ذلك الصوت ، لم يتحمل أن يسمع آخر أصوات أبيه في الدنيا ، و الحقيقة أنه كان يسال الله أن يقبضه في ذلك اليوم ، رغم صعوبة ذلك عليه ! كان يحس بكبده يجثت من داخل أحشائه ، كم هو صعب ذلك الإحساس ، أن تقف عاجزا عن فعل شيء لأعز إنسان لك في الدنيا و أنت عليه الآن تتفرج ، غرغرة شديدة ! علم بينه و بين نفسه أنها بداية النهاية ، تنذره بقرب زيرة الموت أخيرا لمنزله ، يختطف معيله ، فبدأ بترديد الشهادة عليه ، بشكل عفوي ، تاليا ما جاد الله به عليه في تلك الساعة من الآيات و الأذكار ، و كان يدعو الله أن يخفف على حبيبه سكرات الموت ، و أن يثبته ، و أصبح فيما بينه و بين نفسه ، يتوسل الله ، و يحاوره ، آرب ، لقد كان نعم الأب فارحمه ، آرب ، لقد كان حبيبا ، فهون عليه ، آ رب ، غني أنت عن عذابه فلا تعذبه ، لا تحرق خلقه بالنار و لا تهوله في قبره ، و نوره ، و اءته ما ينقذه من سخطك !
ــ تعال يا مهدي ، ساعدني أن نمده باتجاه القبلة ! قالت أمه
ــ عذرا ، لا يمكنني ذلك ، فيداي ترتعشان ، حسنا هيا
حملاه ، و قبلاه ، و تلا ما تيسر ، في الصباح تحسن حاله شيئا ما ، ذهبت الغرغرة ، و حمد الله أنها لم تكن غرغرة الموت ! قبله ، بسرعة ، و ضمه ، و شمه ، و ودعه ، و علم أنه وداعه الأخير ، و طلب منه أن يدعو له ، حتى و إن كان غائبا عن الوعي ، فشيء ما في صدره يخبره أنه كان في الإستماع إليه ! علم بشيء من التأكيد أنه كان الوداع الأخير ، و أن الله تعالى ربما يعاقبه ، أنه عق والده حينما طلب منه يوما قبل سفره أن لا يسافر إلى ألمانيا ، و أن يبقى إلى جانبه ، غير أنه ألح في ذهابه ، فما كان من مصطفى إلا أن دعى له بالتوفيق ، و رضى عليه ، و كان ذلك ما يطمئنه ! كان شبه متأكد أن الله سيعاقبه ، بأن يحرمه من دفن والده ...
في الطريق إلى المطار ، تمنى لو أن كانت له القدرة على البقاء إلى جانب والده ، تمنى بينه و بين نفسه ، لو تكون يديه آخر شيء يفارقه جسد والده من الدنيا ، و يتلو على قبره القرآن و يدعو له بالثباث ، و كان كلما اقتربت السيارة من المطار ، كلما أحس بجزء منه ، من ذاته يفنى ، و يتبخر ، أحس بكل ذكرياته ، و كل طفولته تنهار ، و تندثر ...
وداعا أيها الحبيب ، وداعا ، في آخرة الرحمن ، عند مليك مقتدر ، في مقعد صدق ...
حين وصل إلى ألمانيا ، و بعد أسبوع من ترقب هاتفه ، رن هذا الأخير أخيرا
ــ السلام عليكم
ــ و عليكم السلام يا مهدي
ـــ خيرا يا أمي
ــ أبوك استفاق ، و يطلب أن يكلمك !
ــ يا ربي ، صليني به ارجوك !
ــ حسنا
ــ أبي ، أبي هل تسمعني يا حبيبي ؟
سمع صوتا ضعيفا يجيبه
ــ نعم
ــ كيف حالك أيها الغالي ؟
ــ الحمد لله ، أنا بخير ،
ــ الحمد لله و الشكر
ــ اسمع يا مهدي ، أريدك أن تدعو لي بالمغفرة ...
قاطعه يعقوب
ــ كلا ، اصمت ايها الحبيب ، لا تكمل ، لا تكمل ، بل انت ادع لي
ــ لا تقاطعني ، اسمعني ، ادع لي الآن ، أريدك أن تكون رجلا ، و أن تهتم بأمك و إخوتك ، أنت كبير الأسرة الآن ، سأذهب بعد أيام إلى القبر ادع لي !
اختلجت أحرفه ، و انحبس صوته ، فرد قائلا
ــ أسال الله أن يغفر لي تقصيري نحوك !
ــ ادع لي ! ادع لي ، فأنت مهدي ، و تصلي ، و أتمنى من الله أن يكون دعاءك مستجابا
ــ اسال الله أن يرحمك
ــ آمين ، آمين ، المزيد ، ادع لي
ــ أسال الله لك الجنة
ــ آمين آمين ، لا تخف يا يعقوب ، فالحمد لله ، أحب ربي ، و ظني به أن لا يعذبني ، فهل تراه يعذب من أحبه ؟
ــ لا و الله ، لا و الله ، لا و الله لا يعذب الكريم من أحبه ، كريم هو ربي كريم حبيبي كريم ، لا يعذب من أحبه !
ــ كن رجلا ، ألقاك في ملكوت الله و أرجو أن تلحق بي مؤمنا ، دينك دينك دينك !
رد عليه منتحبا ، أن كفى يا أبي لا ترهق نفسك ، انتحب وسط الشارع ، غير مبال بأحد ، فأجابه
ــ بسلامة وليدي توحشتك
و لم يزد على هذه الكلمة شيئا ، و دخل في غيبوبته ، و دخل هو في بكااء مرير ، في وسط الشارع ، حتى أحس بروحه تفارق قلبه ...
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة