الموظّف السّاذج.. والمشعوذ الممسوس.
قصّة من الواقع
نشر في 29 ماي 2024 وآخر تعديل بتاريخ 29 ماي 2024 .
القصص والحكايات لا تنتهي من حياة الانسان، بل إن حياة الإنسان كلها قصص وعبر. من القصص ما يمكن سرده، وأخرى يتحفّظ عليها المرء و لأسباب كثيرة؛ فمجرّد تذكّرها يحيي الألم. والإنسان؛ ذلك الكائن الغريب الذي لا هو بالملاك الجميل، ولا هو بالشيطان القبيح. ورث الجمال من الملائكة، ومن الشيطان الخبث والقبح، إلّـا الأنبياء فهؤلاء معصومون.
لدى العبد الضّعيف أكثر من قصّة ورواية، اتحفّظ على بعض منها ولا أريد إخراجها إلى العلن. لأنّي أراقب الله تعالى في أصحابها. و مهما كان مستوى الضرر أو الأذى الذي تسبّبوا لي فيه، فأنا لا أريد أن أعاملهم بالمثل. هذا هو أنا، وربما هناك من يحكم عليّ بالضّعف والسّذاجة، بينما أنا أرى العكس؛ فالإنسان القوي هو من يملك نفسه ولا يدع الغضب يسيطر عليه، فتصدر منه أفعالا قد يندم عليها في الأخير.
الموت مصير كل حيّ، وأحبّ أن أكثر من ذكره، فهو كما يريحني من عناء الدّنيا و أتراحها ومشاكلها، يمنعني كذلك من بعض ردود الأفعال المشينة. وهو السبب الوحيد الذي دفعني إلى الامتناع عن سرد بعض من القصص.
أما القصّة، الغريبة العجيبة، التي قد لا تخطر على بال أحد، و التي كدتُ أنساها، على الرّغم من غرابتها.. تتعلّق بدركيّ؛ تعرّفت عليه حين كنتُ أمينا عامّا بالبلدية. وقد يتساءل بعض الفضوليين عن طبيعة العلاقة التي تربط بين إطار بلدياتي وعسكري؟ وهذا من حقّهم، وواقعي. سيّما وأن هناك نوع من الصراع الذّاتي أو الشّخصي -لمن لا يعرف ذلك- بين المسئولين في البلدية ورجال الدرك الوطني.
لكن العلاقة مع صديقي الدركي هذا لم تكن علاقة عابرة ولا عادية ولا حتّى شخصية، والذي تسبّب فيها هو عون الاستقبال، زميلي في العمل الذي ألحّ عليه وقام بإحضاره إلى مكتبي، أين تعرّفتُ على قصّته العجيبة والغريبة، واطّلعتُ على سرّه الخطير.
تعود الحكاية إلى منتصف تسعينيّات القرن الماضي، حين فتحتُ مسامع قلبي لهذا الدركي الغريب، غريب وعجيب أمره؛ كان قد روى لي قصته مع العالم الآخر؛ وعلاقته مع الجن بالتحديد. وأراني الاخضرار الذي حول عينيه و يديه المرتعشتين تداعبان دون توقّف خواتم الفضّة المتراصّة في أصبابعه. وهو يريد أن يسمعني شكوته من زملائه الدركيين الذين يضايقونه باستمرار ولا يتركونه ينام، ويسخرون من حالته ويصفونه بالشخص الغريب، وحتى صاروا يتحفّظون منه، بل ويخافون منه ومن تهديداته المحتملة، ومن ردّة فعل قد تجعله يوجّه سلاحه إليهم في لحظة من اللّحظات.
بمرور الوقت توطّدت العلاقة بيني وبين هذا الدركي أكثر فأكثر، فكنتُ أحمله معي في سيارتي ”الأونو“ فياط الخضراء، وألبّي له بعض الطلبات، وكان من بينها زيارة ساحر أو مشعوذ ؛ لا أعرف كيف أسمّيه، يسكن بالبادية. والذي كان يروي عنه الكثير من الأساطير ليرغّبني في رؤيته. وأنّه ليس ككل السحرة أو المشعوذين، كما كان يحبّ تصويره لي دائما. ووجدتني في أحد الأيّام في كوخ صغير مغطّى بالقرميد التقليدي جالسا كالطفل الصغير و كتلميذ أمام هذا الساحر أو المشعوذ، متلهّفا لمعرفة ما يقوم به من أفعال وأقوال، يدفعني الفضول للتأكّد من ادّعائه معرفة ما في الغيب.
وبقيتُ على تلك الحال أزور هذا الساحر أو المشعوذ، أحيانا رفقة الدركي، وأحيانا وحدي أو برفقة أحد من الزملاء و الأصدقاء. ولكنّي مع كل ذلك لم أطمئن لادّعاءاته أبدا؛ والتحفّظ أو الحذر-كما تعلمون- مطلوب مع هؤلاء السحرة والمشعوذين. والسحرة المشعوذين -لمن لا يعرفهم- يتميّزون بالمكر والخبث والدهاء، فهم ليسوا ككل البشر، هؤلاء ”العناكب“ المكرة الخبثاء يدركون جيّدا أنه لكي يسهل استدراج ضحاياهم إلى ما يخدم أغراضهم الخبيثة، لا بد من استنزافهم معنويّا.
وكنتُ قبل هذا أعاني من مرض ”الرّهاب“. والذي جعلني أبدو إنسانا خجولا ضعيفا تائها؛ لا أعرف من أنا ولا ما أريد. على الرّغم من الرّغبة الملحّة في مقاومته بكل الأشكال، بما في ذلك الانكباب على أنواع المسكرات و المهلوسات التي أدّت بي في النهاية إلى إدمان الوحدة والانعزال. وصرتُ ”لقمة سائغة“ لهذا الدركي الذي لم يتردّد في دعوتي إلى عالمه المحفوف بالمآثم والمخاطر والأسرار. ولم يكن لدي خيار آخر سوى الاستسلام والارتماء في شباكه وشباك من يحملني إليهم من المكرة والخبثاء أمثاله.
”من جهل شيئا عاداه“ -كما يقول المثل-. فقد يستغرب مثل هذا الكلام بعض الذين يجهلون مدى خطورة هذا المرض اللّعين الذي يستفرد بالكثير من الخلق ويضرب عليهم سرادقه من جميع النّواحي، فيعانون معاناة شديدة لكنهم يتكتّمون ولا يبوحون بسرّهم خوفا من تسليط الأضواء عليهم فينكشف أمرهم فيسقطون من أعين الناس ويغدون محل انتقادات وسخرية الآخرين.
ويسمّى عند الاخصّائيين ”الرّهاب“. ويعرف عند عامّة النّاس ”بالخجل“، ومن بعض الملامح؛ كاحمرار الوجه، وتشوّش الأفكار، والتلعثم في الكلام،… وعلامات أخرى لا يحسّ بها إلّـا صاحبها الذي يعاني في صمت؛ من ازدياد في ضربات القلب التي قد تصل به إلى غياب الوعي و الإدراك في بعض الأحيان.
لهذا السبب، يختار بعض ضحايا هذا المرض اللّعين اللّجوء إلى السحرة والمشعوذين، الذين لا يتأنّون ولا يتردّدون في انتهاز فرصة كهذه للانقضاض على فرائسهم بمجرّد وقوعها في شباكهم اللّعينة.
يتبع..