التعامل مع المصالح الحكومية مؤذي للنفس ومضيع للوقت من جميع الجهات، وكي تخرج بأقل الخسائر عليك اكتساب مهارات معينة للتعامل تتركها جانبا عند خروجك وانقضاء مصلحتك.

أذكر حديثا طويلا دار يوما بيني وبين أحد أصدقائي حول العمل في مؤسسة حكومية، وقتها دار أمام عيني روتين ورتابة الوظيفة والسخافة الشخصية التي ربما تكتسبها شخصيتي -ما لم تكن كذلك بالطبع-.. أخبرته أنه من المستحيل بالنسبة لي أن أعمل إلا في أماكن محددة معروفة بنظامها وعدم العشوائية المفرطة، حينها ربما أتخلى عن شيء من هذا المبدأ وأتنازل.. قال لي صديقي: أنت مجنون، وظيفة حكومية تعني الاستقرار وإن كنت تتقاضى الملاليم فهي ضمان عمل ومعاش لك ولأولادك.. صراحة لا أعلم أي معاش يفكر فيه المرء في الخامسة والعشرين من عمره وكيف سيأتي المرء بأولاده هؤلاء بعمله ذلك؟ لكن على كل كلانا يحترم رأي الآخر في النهاية وربما أجدني بعد أعوام في مكان كذلك عندها سأبرر له أن الإنسان يتغير وتتغير بالطبع أجزاء من مبادئه ما لم تمس أصول فيه.

أما عن تعطيل مصالح الناس بلا هدف فأظن أن تلك هي المهارة الأساسية لقبولك في الوظيفة، بداية من تقديمك لسيرتك الذاتية قبل التعيين وحتى المقابلة الشخصية عليك أن تظهر مهارتك تلك لتظفر بالوظيفة، بالطبع هناك أمورا أخرى تجعلك تظفر بها غير ذلك لكنها غير مفيدة في سياق حديثنا ذاك.

شيء مهم كذلك عند زيارتك لأي مكان حكومي أن تجدد النية وترجو أن يغفر لك الله ذنوبك بصبرك، وتحتسب الأجر عند الله، وتتحلى ببرود أعصاب يجعلك تتنازل عن تهشيم عظام رأس موظف متقاعس مثلا.

الغريب في الأمر أن أغلب المؤسسات كذلك.. هذا لا يعني عدم وجود مؤسسات محترمة موظفوها يتقوا الله ربهم في الناس بالطبع كما ذكرت لك.. ما إن تدخل البناية حتى تشم رائحة السخافة.. جميعها كذلك أكاد أقسم لك أن لولا اختلاف البنايات وأماكنها لظننت أن جميعها واحد بموظفوها.

اليوم دخلت مكان ما لاستخراج أوراق وفيت جميع متطلباتهم بالحرف مذ أكثر من إسبوع تقريبا والأمر متوقف على إمضاء موظف -أيا كان مركزه أو مسماه الوظيفي-.. على اليمين مكتب موظفة تدعى مدام عنايات تقوم بتقطيع الطماطم والبقدونس لعمل طبق من السلطة وتضع العيش الساخن ليبرد على المكتب.. أمامي مكتب أستاذ عدلي المنوط بالعمل دخلت وقلت: سلام عليكم.. كانت تكفي لينظر في وجهي ويتذكر الأمر قال لي: صباح الخير وأمرني بالجلوس والانتظار برهة، ظننت أن كوني أذهب له بشكل يومي ويعدني بانهاء عمله وتسليمي الأوراق في يوم غد في كل مرة أنه سيصدق تلك المرة أو على الأقل سينهيه فورا.. هنا فكر للحظة وربما تذكر أن اليوم هو الخميس، وهذا يعني أن عليه أن يعتذر لي ويطلب الانتظار ليوم الأحد، هذا سيثير شيء في نفسي أكيد وأظنه شاهد ذلك في عيني فتحرك وطلب مني أن أستريح دقائق.. لكن الغريب أنني وجدته يعود بقرطاس الطعمية الساخن ويدعو أقرانه للفطور، لا أعلم أي فطور هذا قبل أذان الظهر بدقائق، هنا عرفت ماذا ستفعل مدام عنايات بطبق السلطة، كنت أظنه للغداء وأن هناك من ينتظره في المنزل بنهم.. يا لي من مغفل!

"اتفضل يا بشمهندس طعمية سخنة مد إيدك" قالها عدلي في ما يعرف "بعزومة المراكبية"، فشكرت له كرمه واعتذرت له، لا حرج عليه إذ لا يمكن للمرء القيام بعمله ومتابعته إلا بعد امتلاء معدته بالطعمية السخنة وسلطة الطماطم والبقدونس قبل الثانية عشر ظهرا بالطبع، وليذهب صاحب المصلحة إلى الجحيم "هي الدنيا هتطير"، فطور كذلك بالطبع لازم له "طقم شاي بقى عشان نحبس" كما قال موظف آخر.. هنا شعرت مدام عنايات بشيء من نفاذ الصبر عندي عندما سمعت صوت زفيري فحلفت علي أن أشاركهم الشاي في كرم متناهي أيضا، بالطبع لا يمكنك الفرار من مثل ذلك، ولا يمكنك إلا أن تستشيط غضبا في داخلك فقط وتصبر جزاء لكوب الشاي ذلك ولكرمها طبعا.. هذا الكوب به مفعول السحر سيجعلك تلقائيا تنتظر لأيام وتتحمل للرابعة عصرا دون تذمر.. يا له من كوب شاي!

في كل مكان ستجد مدام عنايات وأستاذ عدلي، لا لوم عليهم ولا استهزاء صراحة، لابد من رئيس عمل يتق الله في أوقات الناس ويتابع مرؤوسيه وموظفيه ويهدم من تكرس من عادات لديهم تضر بالغير.. لابد من إلغاء مهارة السخافة لقبولك موظفا في أي مكان كان.. عليك أيضا اصطحاب أي شيء لقضاء الوقت في انتظار الأستاذ عدلي دون جزع، وعليك بالطبع تمالك أعصابك، وشكرهم على كوب الشاي.