أنا لا أكتب، كي أثبت أي شيء لأحد، و لا أكتب كي أحصد تصفيق الأيادي و لا أكتب كي أنشر الوعي بشيء ما. إنني أكتب كي أشفى من ثقل الكلمات. و لأن المرء يحتاج أن ينشر أفكاره على الورق و يخرجها من عتمة الذاكرة، إلى بريق الوجود، يعريها من طبقاتها الكثيرة، و من الأحكام التي يطلقها على نفسه في وجودها، ليعي بتفاهتها، لكي يعيد ترتيبها حتى لا تحتل الواجهة الأمامية من تفكيره، ثم يتخلص بعد ذلك منها.
أكتب لأن الكلمات تأتي إلي و أرفضها، أعزلها في دائرة صغيرة وأصم آذاني عنها. و لأنني أشعر كلما فعلت ذلك بندم أم أعدمت جنينها. و لأنني أحس منذ الأزل بأنني اثنان و لا أعود أنا أنا حتى أكتب.
أكتب لأن الكتابة لم تعد تستهويني كما السابق، و لأنني الآن أستطيع أن ألقي بكتاباتي في وجوه الآخرين دون أن أشعر بالرغبة في الهروب أو الاختباء. أكتب لأنني لم أعد أتذكر أسماء أكثر الكتاب الذين أحببتهم و لا عناوين الكتب التي قرأتها، و لا أتذكر آخر قصيدة كتبتها، و لأن الكلمات الخطأ تعمي الروح، أكتب اليوم كي أنقذ نفسي منها فقط.
أكتب لأنني أواسي نفسي بما أكتبه، و لأنني أشعر في قرارة نفسي أحيانا أنني محظوظة جدا، لأنني أستطيع أن أكتب رسالة مواساة لنفسي في عز الانهيار، و لأنني أستطيع أن أغدق على نفسي بأجمل الكلمات دون أن أنتظر من أحد أن يقول لي صباح الخير.
أكتب لأنني رأيت حلما قديما بأنني أملك كتابا، فنهضت ذات صباح لأكتبه، و لأنني أخذت ما يكفي من الوقت كي أصفق لنفسي على هذا الإنجاز الذي لم أشارك تفاصيل كتابته مع أحد.
أكتب لأن الكلمات لم تعد تهمني كثيرا، و لأنني أفضل أن أصمت على أن أكتب، و أفضل أن أكتب ما قد يضيء عتمة شخص على أن أكتب عن عتمتي، و أفضل أن أستمتع بلحظات الحياة على أن أؤرخها، و أفضل أن أعيش بفلسفتي لا أن أفسرها، و أفضل أن أرى الحياة بعيوني على أن أراها بعيون كاتب ما، و لأن الكتابة في أصلها فعل إحساس و كفى. و لا يصرف الإحساس بضمائر الغائب! و أجمل الأحاسيس لا تستطيع في النهاية أن توصلها حتى بأعذب الكلمات. تتهاوى حين توشك أن تصل الى ذروتها، تسقط من عليتها إلى انحطاط الحقيقة، إلى سذاجة الأشياء، إلى عمق دفين لا تستطيع حبال اللغة أن تخرج النفس منه، فتظل الكلمات عالقة و تظل الأحاسيس معلقة، و أظل أنا أبحث على السر الذي يجعل الكلمات مفهومة، و حقيقية و غير زائفة، السر الذي أغرق الكتاب من قبلي في دائرة العزلة و الاختلاف، و لا أجد إلا أن أكابد نفسي على اعتزال الكتابة و تمزيق الأوراق و الاختلاط مع الحياة في أبسط تفاصيلها.
أكتب لأنني ولدت بقلب يحس، و لأن مجرد الخروج من باب المنزل أمر مرهق يكلفني حمل جداري الصلب كي أحمي نفسي خلفه. و لأننا اعتدنا أن ننظر الى الأحاسيس على أنها شيء سيء جدا. أكتب لأصل إلى الذين يشبهونني، و أعرف أنهم كثر، منعزلون في مكان ما، يجلدون بعقولهم قلوبهم ألف جلدة في اليوم، يدربونها على أن تتجاوز الإحساس إلى الفعل، و التفكير إلى العمل، و الخيال إلى الواقع، و الكلمات إلى العدم، و الرؤية إلى المألوف...
أكتب لأنني بهذا أجيب على السؤال الذي لطالما ألقاه على مسامعنا علماء النفس: ما الذي ستندم عليه في آخر يوم من حياتك إن لم تفعله؟ فأجيب حينها أريد أن أكتب.
نهيلة أفرج
The painting: Dream book by Libelle
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية
التعليقات
أكتب لأن الكلمات تأتي إلي و أرفضها
أعزلها في دائرة صغيرة وأصم آذاني عنها
أكتب لأن الكتابة لم تعد تستهويني كما السابق
أكتب لأنني أواسي نفسي بما أكتبه
****************************
تشرحنى هذه الكلمات فى الصميم من حالي
لطالما حلمت أن اجيب على السؤال ؟؟؟؟؟؟
لمن اكتب ؟؟؟
لما أكتب ؟؟؟
هل تستحق كلماتي أن تخرج ؟؟
لله درك ما أسعد قلمك بك
أحييكي