القراءة أولاً
والسؤال لماذا ؟
أي لماذا القراءة أولاً .
بالنسبة للمسلم فإن باب الإسلام والإيمان قد تم افتتاح عصره المضيء بالأمر " إقرأ " ، قبل ان يوضح او يبرر له سبب هذا الأمر . حتى قبل ان يعلمه أن هذا بداية الدين الجديد ، ومرحلة للبشرية تمتد الى آخر أيامها ، وأن عمادها سيكون العلم ، وأن من يتخلف عن ركبه فلن تفيده المبررات ، لماذا ؟
سؤال آخر نجد أنفسنا مضطرين إليه وإلى الجواب عليه . إنه في وقته إعلام بمستقبل قادم سيكون العلم فيه مادة المجتمع ، والجهل فيه صنو الشرك في الايمان والعقيدة . اليس المشرك يشرك بالله جهلاً منه بحقيقة الايمان به ؟ وكذلك العلم في حياة الناس ، فمن كان جاهلاً فهو في المقام الأول قد ارتكب المعصية الأولى بإهماله هذا الأمر الإلهي . وفي المقام الثاني يحصد نتيجة فعله : الجهل المركب طبقات وطبقات .
من كان يظن الدين مجرد طقوس واحوال تنيرها الشموع فهو لا يعدو متابعاً لما جاء الدين الإسلامي برفضه من اللحظة الأولى ، وهو التقليد الأعمى المبني على الجهل وعلى عدم تحمل المسؤولية بشكلها الصحيح .
وخلافاً لنظرة " المثقفين " المتغربين وأسيادهم من الغرب النصراني الذي زعم وبكل صفاقة وافتراء على الله ان آدم وحواء خرجا من الجنة التي كانا فيها بأكلهما من شجرة المعرفة فاستحقا الطرد ، وعلى أساس من هذه النظرة قامت الثورة الصناعية الكبرى في أوروبا على فصل الدين عن الدولة .
فما دام النعيم يستلزم الجهل رفيقاً لدربه بحسب تلك النظرة التأصيلية عندهم ، وما دامت نتائج الجهل واضحة أيما وضوح في الحياة فلا بد إذن ان يتم حصر الدين و" جهله " في دور العبادة حتى لا يدمر المجتمع . هذا الاستنتاج يناسب تلك المقدمة ولكن لا يناسب غيرها ، ونعني بها تلك التي جاء الإسلام بها مخالفاً لهم وفاضحاً لتزييفهم الحقائق الإلهية .
والأنكى من هذا كله انهم عمموا نظرتهم على كل فكر ودين ، ومنه سحبوها على الإسلام الذي بدأ عصره بالأمر بالعلم ، والقراءة ، وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وقوله أيضاً : ليس مني إلا عالم أو متعلم ولا تكن الثالثة فتهلك .
ما هي الثالثة المهلكة في الحديث ؟ لمن لم يستطع الوصول اليها نقول له جرب الجهل ، لعلها توصلك الى الحقيقة المرة التي حذر رسول الله منها . ان الهلاك والدمار نتيجة حتمية للجهل وما هو الجهل ؟
الجهل اولاً ان تزعم انك تعلم وفي الحقيقة لا علم لك بشيء . وثانياً ان لا تسعى للعلم مفترضاً انه ليس واجباً عليك ، بل هو واجب كفائي على الامة ان قام به البعض سقط عن الكل ؛ وثالثاً ان لا تدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقك في هذه الدنيا ، وبالتالي ستعرض عن حملها والقيام بأعبائها ظاناً أن الأمر يسع فعلك وأن العلماء في الدين واخوانهم في أمور الحياة هم من سيحاسبون فقط امام الله يوم القيامة وان مسؤوليتك تكمن في متابعة واحداً منهم لتنجو .
ولتأخذ في صدر الحسبان عندك ان مسؤوليتك امام الله عن نفسك وعن دينك مسؤولية فردية لا يوجد من سيحمل عنك منها شيئاً يوم القيامة ، فهل أعددت لها العدة المناسبة؟ من قراءة وعلوم ؟ألا إن من أسوأ نتائج الجهل والتجهيل هي هذه النقطة . لأنها تحرم صاحبها من نعمة العيش الكريم في الدنيا وتمنعه من النجاة في الآخرة .
بل ان الجاهل هنا يكون اضحوكة الجميع ومسخرة يلهو بها كل من يعلم الحقيقة ولا يبلغه او ينصحه بها .
إقرأ : لتعلم ...لتفهم ....لتدرك من أنت ....وما سبب وجودك...وما نهايتك ....من عدوك....من صديقك .....
لا تظنن أن الكلام هنا يتعلق بالدين فقط . فهذه الطامة الكبرى للمتدينين الذين يعزلون علم الدين وفهمه عن العلوم الأخرى . فيعتنون بكل علم على حدة ، وربما تجد العالم في الدين من اجهل الجاهلين بعلوم الدنيا قاطبة .فأنى له ان يشرح الدين للناس . الجهل هنا حرب على الإنسانية ، لا مجرد مشكلة تحتاج الى حل .
إقرأ : ما معنى أقرأ في اللغة التي نزلت فيها هذه الكلمة ؟
لنذهب الى المعاجم ونرى ما تفيدنا به :
أَقْرَأَهُ السَّلاَمَ : أبْلَغَهُ إيَّاهُ
أَقْرَأَتِ النجومُ : دَنَتْ من الطُّلوع
أقْرَأَ عَنْهُ : اِنْصَرَف
أقْرأَ الرَّجُلُ : تَنَسَّكَّ
أقرأه القُرْآنَ : عَلَّمه قواعِدَ قراءتِهِ
أَقْرَأَتِ الرِّياحُ : هبَّت لأَوانها
أَقْرَأَتِ المرأَةُ : حَاضَتْ
أَقْرَأَتِ المرأة : طَهُرت
كانَ مِنْ أقْرَإِ الطُّلاَّبِ : مِنْ أفْصَحِهِمْ قِراءةً أَوْ أَكْثَرهمْ قِراءةً
قرَأ الكتابَ ونحوَه : تتبَّع كلماته نظرًا ، نطق بها أوْ لا
قَرَأَ الشيءَ قَرْءًا ، وقُرْآنًا : جمعَه وضمَّ بعضَه إِلى بعض
قرَأ على فلانٍ النحوَ : دَرَسه على يديه
قرَأ للمستقبل حسابَه : احتاط له ،
يبدو من هذه المعاني المتشعبة المتغلغلة في أعماق اللغة العربية أن واضع اللغة قد وزع الكثير من مضامينها لتنال حصة من هذا المصدر اكراماً واعلاء له و تكريساً في نفس الناطق بها ورائداً في عالم الإنسان .
انه يصلح منهجاً وحده لحياة الانسان ، أي لو ان القرآن اكتفى بكلمة إقرأ ربما اكتفى الناس من مضمونها في حياتهم لسعة الفضاء المعنوي الذي تتحرك فيه هذه الكلمة ومصدرها في حياة الناس .
وهناك الكثير من المعاني لهذا الفعل ، ما يثير الملاحظة والانتباه ، كم لكلمة القراءة من دور في حياتنا ونحن مهملون له . العربي زمن بداية البعثة كان يدرك هذه المعاني بفطرته اللغوية ، فهل ندرك منها شيئاً غير معنى القراءة في الكتب .
ان كلمة إقرأ هي منهج حياة كامل لا يصح فيه البتر ولا تجزيئ الأمور . ان تهمل جزءً اضعت الباقي منه .
فمن كلمة أقرأ نعلم أنه لا إله إلا الله ، ومنها نعلم كيف بدأ الله الخلق :" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق " ومنها نعلم ان من يخشى الله حق خشيته هم العلماء:" إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ " وأن من يخشى الله حق خشيته يكون من علماء الناس ، فهل يقبل النص ان يكون الجاهل من العلماء ؟ بالطبع لا ، وهل يخشى جاهل رب العالمين ، الجواب ايضاً لا لان الخشية اقترنت مع العلم لا مع الجهل . ولكن الامر هو في سؤالنا للعامة والعلماء على السواء : من منهم يتقبل هذه الماهية ومن سيرفضها : ما هي الأسباب القابعة خلف القبول وخلف الرفض ؟
العلم والقراءة سيفتح الباب واسعاً لعقلك وفكرك لفهم الواقع والحياة والاطلاع على حقيقة الكثير من الأمور . سيجعلك أقدر على ان تعامل اهلك بالحسنى واصدقاءك باللطف ، لأنه سيؤمن لك كل حاجاتك المعرفية في هذه الأمور ويضعها بين يديك ، دون ان يطالبك بمقابل لها . العلم والقراءة سيعلمك كيف تقدر العالم لعلمه لا لشخصه ، لفهمه وقدرته على ان يبلغك بما عجزت انت عن الوصول اليه لنقص امكاناتك لا لإعراضك عنه .
هل فكرت يوماً لماذا قال الله عز و جل " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ؟أو لعلك لم تقرأها من قبل وكفى بها طامة من طوام الجهل . لأنك لو علمت ...وكيف ستعلم ما لم تقرأ ؟....أي أنك لو قرأت لعلمت ...ولو علمت لعرفت ان السموات والأرض امر لم يستطع العقل البشري المتمرد في هذا العصر ان يحصر فهمها ويحدده ، و لعرفت كم انت ضئيل وكم هذا الكون العظيم يتمتع بفرص للحياة ومصادر للفهم ولفائدة البشر ، في حاضرهم ومستقبلهم .
او ربما يظن القارئ ان هذه دعوة لتصير قارئاً بامتياز ، ولعمري انها لثلمة في فهمه ، انما هي دعوة لتقرأ مع الفهم والتطبيق ، في حال اللزوم ، وللالتزام في حال الضرورة ، ليست هي دعوة لك لتقول قرأت خمسة ألاف كتاب ، ولو قلتها فقل لي بربك ما تحفظ منها نطقاً وما تأثيرها في حياتك ؟ هل أصبحت مدركاً لماهيتك ؟ ولعلاقتك بمن حولك ؟ هل تملكت قواعد النظر الصحيحة في الكون ؟ هل وجدت نفسك يوماً خاشعاً في محراب كتاب يتكلم عن جسم الانسان والاعاجيب التي زرعها الله فيه لتؤمن به ان علمتها ؟ لتكون لك منارة بعد الاف من السنين مؤلفة من عمر البشرية تأتي أنت وتقول يوجد كذا الف كرية حمراء في الدم ...وأقل من كذا ...لا يمكن ان يعيش انسان .
القراءة ستكشف لك معنى لست غافلاً عنه ، ولكن ، ربما لم تعطه حقه من البيان ، انه المسؤولية الملقاة على عاتقك امام نفسك والمجتمع وقبلها امام الله عز و جل ، ستوضح لك القراءة ان ما يمر معك من أمور لن ينتهي امره بمجرد عبوره معك ، بل سيكون لك موقف آخر معه في زمن ما في مكان تجاه جهة ما .
المسؤولية التي يجهد الكثير من الناس في القاء ستار عليها بينه وبين نفسه ويمكن حتى امام الناس في مواقف معينة ، لن تكون واضحة على حقيقتها ما لم تكن ممن يقرأ ويتدبر ما يقرأ .
لن يفيدك ادعاؤك بالجهل في أمورك لتستعفي من مسؤوليتها ، فان امسكت بسلك كهربائي مكشوف والتيار موصول اليه ستجذبك الكهرباء سواء علمت او جهلت ، ومسؤوليتك عالماً بها ربما تدفع عنك ميتة او شراً كبيراً .
المسؤولية تأتي من استقراء الاحداث والأمور ، يعني من قرأ ، تلك الكلمة ذات البعد العميق الغور في حياة الانسان .
هل ادركت كم مصيبة لترك القراءة تحوي في داخلك أيها الانسان ؟ والسبب هو ارتماؤك في أحضان الشهوة والرغبة وابتعادك عن عالم الفهم والعلم . وكل حين تبرر لنفسك بما يضمن لك سكوتها عنك . بل وعن غيرك ايضاً .
لماذا يصر البعض على المحافظة على جهل الناس تحت عناوين براقة ؟ ماذا يضرهم ان فهمت الناس الحقيقة وحدها ؟ هل يدركون انهم بشكل ما يثبتون المعنى الكنسي الشركي في نظرته الى اصل الحياة الذي ذكرناه آنفاً عن آدم وحواء ؟ لماذا الهروب من الحقيقة ؟ لنقف موقف مصارحة ذاتية امام الله : هل يرضى الله عن تجهيل الناس باسم المحافظة على ايمانهم ؟
إن الخوف من القراءة الفردية يعود الى اصرار المجتمع و"العلماء" ان الانسان غير المختص لا يملك الحق في فهم القرآن ، ولا أدري ان كان لهم مستند متين مناسب في قرارهم ، فقد قال الله عز و جل : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . الله يحث الناس على التدبر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " واضح ان الكلام موجه للناس عموماً ، واصل الدين مسؤولية فردية بين العبد وخالقه ، وعندما يحتاج المسلم عوناً في فهم أمر من الدين عسر عليه فهمه يمكن عندها اللجوء الى العلماء ليشرحوا له ما عسر عليه فهمه اليس الله قد قال : فاسألوا أهل الذكر ...إن كنتم لا تعلمون " وهذا الأمر وإن كان يذكر القرآن بوضوح تام لكنه لا يمنع منه في كل شؤون الحياة، حيث ان العلم والدين يتقاطعان في الكثير من الأمور ولا يتناقضان في أي منها .
والأسوأ من هذا من يدعو الى عدم تعليم المرأة لأنها خلقت للبيت لا لغيره فما حاجتها للعلم معه ؟ وأسوأ منهما معاً من يرفض العلم في هذ العصر لأنه لا مستقبل له أي ناتجه المادي ضعيف ، فهل العلم والقراءة فقط لإنتاج المال ؟ اين انتاج العقل الواعي المدرك الذي يحقق إنسانية الانسان ، ويعلمه ما له وما عليه .
لا نتجاوز الحق بقولنا ان كل من يحافظ - عالماً كان او جاهلاً – على جهل من حوله او يسعى الى تجهيله لا يعدو ان يكون اشد الأعداء قرباً منه ، وربما كان له موقف محاسبة امام الله يوم القيامة فهل انت مستعد يا من تساهم في ابعاد الناس عن القراءة والعلم لهذه المسؤولية ؟
من استقراء التاريخ ( لاحظ استقراء من قرأ ...) نعلم ان الله أيد رسله بما يعطيهم التفوق على اهل عصرهم وخير مثال في رسالة الإسلام التي جاءت بالقرآن الكريم معجزة تحدت العرب اهل اللغة واللسان ، ونسأل هنا سؤالاً مشروعاً يناسب هذا السياق : ما ابرز ميزات هذا العصر ؟ أي جواب يخلو من كلمة علم فهو جواب ابتر ، فإن كان العلم أبرز ميزات عصرنا والقراءة بابه ، فلماذا نحجم عن القراءة ؟ ولماذا نجد هناك من يمنعنا عنها ؟ ومن يحول بيننا وبينها بأساليب شديدة الغرابة وأحياناً صعبة الكشف بقصد تجنبها ، كل يوم أسلوب جديد وكل يوم فكرة غريبة تستولي على عقولنا ومن مصادر نظنها قريبة منا نحبها و " تحبنا " "؟
الدين والعلم لا يفترقان ومناهجهما تتلاقى ، ومهما سعى البعض بغباء او بتذاكي لإظهار الامر وكأنه ليس هكذا فالحقيقة بخلافه ، كيف لا ونحن كل يوم نقول للناس : العلم يدعو للإيمان ، الكون هو والقرآن من مشكاة واحدة ولا تناقض بينهما ، فهل نحن نخدع الناس بشعارات براقة لا حقيقة لها ام ان حقيقتها تخيفنا قبل غيرنا ام ان مصالحنا أولى عندنا من الحقيقة فنبرر ما لا يمكن تبريره ؟ لماذا لا نرى شعاراتنا مطبقة في واقعنا ؟ اليس هذا دليل على تناقضنا ؟ الا نحتاج بسببه العودة الى أصول ديننا ومراجعتها لنتخلص من كل ما علق بها من شوائب وتراكمات ؟
إقرأ لتعرف ان الحقيقة في القرآن ودليلها في التاريخ ، كل ما يلزمك من الحقيقة لتعيش كريماً من مبادئ ووسائل ستحتاجها البشرية جمعاء موجودة في كتاب الله لا يصل اليها الا من كان صديقاً أميناً للقراءة وللعلم ، إقرأ لتربط بين السبب والمسبب . إقرأ لتميز بين الصواب والخطأ . إقرأ لتقف على بينة من كل أمورك . إقرأ لتعرف عدوك من صديقك ، فالله انزلها في القرآن وترك التاريخ يرشدك اليها ، وكل جهل بها نتيجته دمار عليك وعلى أمتك ، كيف لك ان تعرف حاضرك ما لم تعرف ماضيك، كيف ستتجنب ما أخطأه أسلافك ؟ كيف ستزرع البذرة الطيبة لتحصد أطيب الثمر وأنت لا تقرأ ؟
هل أدركت ما إقرأ؟
ملاحظة 1 : ان لاحظ احد القراء المحترمين اننا كنا قساة نوعاً ما في حديثنا فلأهمية المسألة ومعاندة البعض في قبول الكثير مما فيها من الحقائق .
ملاحظة 2 : المقال لا يطلب من الجميع ان يكونوا بمستوى علمي واحد بل يطلب بوضوح تام ان يسعى كل فرد لتطبيق الامر الإلهي بقدر ما يستطيع وأياً كان المستوى الي يصل اليه من حيث النتيجة سيكون خيراً من معصية الامر إقرأ .
ملاحظة 3 : لا يلوم المقال أحداً على مستواه في العلم أياً كان هذا المستوى بل يثير في ثناياه مشروعية وأحقية تطبيق الأمر الإلهي إقرأ .
مروان الشاهد
27\1\2015
-
مروان الشاهدباحث عن الحقيقة . لا احد يستطيع ان يثبت انه يمتلك الحقيقة كاملة . والبحث عنها يجب بنيانه على الدليل لا على الهوى .