المثقفون والمجتمع - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المثقفون والمجتمع

مقالة/ نورا اللحجي.

  نشر في 29 يونيو 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

أولا عليك ان تدرك تمامًا بأنك “نتيجة”، نتيجة مرجعيات، فِكر، ايدلوجية معينة، وعليه فأن الزاوية التي ترى من خلالها العالم والكون تتبع تلك المسببات التي قادت لهذه النتيجة والتي هي “أنت” .

يولد اي طفل صفحة بيضاء، ومع مرور الوقت يتم تشكيلهُ وفقًا للبيئة والثقافة والفكر الذي يحيطه، وينتقل من مرحلة إلى اخرى، تعاقبا وتسلسلا على خطين متوازيين:

من الناحية الجسدية – نحن نعلم – انه ينتقل ويؤخذ بالتدريج تباعا من الطفولة، الشباب، وصولا إلى الكهولة، ولا يُمكن بأي شكلٍ من الاشكال كسر هذه القاعدة او القفز من مرحلة لأخرى دون المرور من خلالها بكل معانيها وتناقضاتها وفلسفتها واحتياجاتها .

أما من الناحية الذهنية/ الفكرية، فأن الطفل يبدأ بملاحظة الاشياء، الاشخاص، الاصوات والتغيرات من حوله دون ان يعي -مثل البالغين- ما يحدث، لكنه يستجيب لها تبعًا لحواسه، إذ تكونُ ادمغتهم غير مكتملة الوعي او الادراك، لكنها حساسة جدا لما حولها، هذا الاحساس يتبعه ردة افعال مختلفة، مثل البكاء فجأة او الضحك، المهم ان بعد فترة من الزّمن وكحالة طبيعية – غير مَرضيّة- يبدأ الطفل بادراك ما حوله، متمكنا بذلك من ابداء ردود فعل مختلفة، كالاستجابة او الرفض، ويؤثر على هذه الردود بشكل اساسي (المجتمع، الوطن، العرقيّة، والدين). لكن ماذا لو جرّدنا الانسان “اي انسان” او طفل اي “الطفل”، من كل المرجعيات السابقة التي اسِس عليها، او اخضعناه لمرجعيّة اخرى مغايرة، هل سيبدي ردة الفعل ذاتها؟

إن الطفل ذاته وُجِدَ بدافع من الفضول والاكتشاف، فاذا ما قوبل هذا الدافع بالقمع والرفض، محاولون بذلك اخراس عقولهم وابقاءها على التبعيّة، هُنا تحديدًا لا يصبح للوعي حضورا كاملا .

لأن الوعي، ليس حالة من اليقظة او الرؤية, بل هي حالة من البصيرة والادراك لما هو اعمق من ذلك بكثير، الوعي الحقيقي، هو (محاولة) التجرد عن الافكار السابق والتبعية العمياء التي من المحتمل ان تخلق بيئة عنصرية منغلقة على ذاتها، والذي يجعل من كل ذلك حاجزا منيعا وعائقا امام الانسانيّة وبالتالي التقدم والمعرفة، لأن التبعية العمياء تعني بالضرورة انعدام الفِكر، الابداع، والابتكار .

إن عدم رغبتنا برؤية الجزء الاخر من الحقيقة والعالم (والذي بالضرورة لا ننتمي اليه ) هو جزء من عدم الوعي، او (عدم رغبتنا بإدراكهِ ) ان صح التعبير وعليه فإن جزء من المعرفة تنحجب، وذلك كله – بالطبع – لا يلغي وجوده، لمجرد عدم ابداء استعدادنا للاعتراف به !

إن عدم رغبتنا في معرفة المشكلة (اي مشكلة) والاعتراف بها، وبالتالي عدم اخضاعها للنقد الموضوعي، (دون تحيز) فأن احتمالية معالجة اي منها سيكون ناقصا وغير مجدي، وقس على ذلك..

لكن اين يكمن السبب؟

إن الأفكار التي تنتج عنها ايدلوجية ما، اذا ما تم تلقينها بشكل هش وغير مستندة على جذور راسخة، ومعرفة واسعة وقناعات تامة، ونقد موضوعيّ دون تقديس مطلق لها، بما يدع مجالا واسعا لتقبل الاخر (أي كان انتماؤه) فأنها بالضرورة ترى غيرها على خطأ وتعاديه، وتنتقده، لأنها تعرف في قرارة نفسها (اعني الافكار ) انها قابلة للزوال حين تتصادم مع “الاخر”، ومن ذا الذي يريد لأفكاره الزوال؟!

إذ ان الهرب “الخوف” الذي يتبعه عداء لمواجهة الاخر، لا يجدي نفعًا، ولا يبقيها صحيحة دون اخطاء، ومن هذا المنطلق يُصبح الاقوى لا من يحمل سلاحا يُخضع الغير لمرجعيته هو (و ان كان ذلك يتنافى مع ما نراه ونشاهده في الواقع اليوم) بل من يحمل فكرة يستطيع من خلالها تقديم نهضة جديدة، دون المساس بالهوية .

ولنا ان نذكر هنا مقولة علي الوردي من كتابه مهزلة العقل البشري:

“الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي يبقى على آرائه العتيقة، هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد”

وعلى ذلك الاساس نقول ان الثقافة:

هي القيم والافكار وما ورثه (ذلك/أي طفل) من أيدولوجيات وعادات وسلوكيات في اللاوعي، التي تنتج تبعا لذلك وعي الانسان ونهجه وسلوكياته، حين يُنشأ في مجتمع ما، فاللغة ثقافة، والعادات والتقاليد (سلبية /ايجابية كانت ) ثقافة، والمبادئ ثقافة، والقوانين، والتشريعات والزي التقليدي وطرق الاحتفال بالمناسبات، واداء العبادات والمقدسات ثقافة، حتى الرقصات والفنون الشعبية تُعد ايضا ثقافة .

و الفرد الذي نُشئ على العُنف والكراهية والقمع، فذلك لأنه تشرّب من ثقافة تدعو للعنف والكراهية والقمع، فكيف تساهم ثقافة منغلقة كهذهِ، من خلال رفض فكرة وجود الاخر، لبناء مجتمعٍ وشعب سويّ؟

قُلنا سابقًا:

إن عدم رغبتنا في معرفة المشكلة (اي مشكلة) والاعتراف بها، وبالتالي عدم اخضاعها للنقد الموضوعي، (دون تحيز) فأن احتمالية معالجة اي منها سيكون ناقصا وغير مجدي..

فهل تُحَقق النهضة حين نتناول الجزء الموروث من المعرفة فقط؟ دونًا عن بقية المعارف والثقافات؟ إن الانغلاق على رأي /فكرة /معرفة ما يُخضعها للتلف وعدم احتكاكها بالأخر يجعلها ركيكة، بحيث لا تتمكن من التأثير والتأثر بغيرها وبالتالي تحقيق شروط وجود الثقافة الفكرية التي تنهض بالمجتمع والشعب .

و علينا ان نذكر هنا والان، كيف ان اعرق واقدم الحضارات التي قدمت وساهمت وانتجت مثل ( اليونانية ) كانت حضارات تتسم في طبائعها بالجدلية والحوارات والاخذ والعطاء وتبادل المعارف والعلوم .

و بالطبع هناك فرق شاسع بين من يأخذ ويتلقى المعرفة الجاهزة من شعوبٍ اخرى، وبين من يبتكرها ابتكارا ويناقش فيها، ولأننا لا نتمكن -بشكل مستعصي- من اتخاذ المسلك الثاني، فأننا – وبكل اسف-ممن يتلقون المعرفة تلقينا، ثم على النقيض العجيب نسعى لدحضها ونصر بعدها ان معظم المعارف من الشعوب الاخرى، هي مغلوطة وغير صحيحة بل وكافرة !

و هنا تحديدا نكون قد وقعنا في فخ “وهم المعرفة”، فحين ان الشعوب الاخرى تعمل من اجل تطوير نفسها بالعلم والمعرفة والسؤال والبحوث، نحن نفضل -برؤية غير منطقية وغير معقولة غالبا- التقوقع بالمعارف والافكار التي انتهت واندثرت منذ سنوات وعقود بل قرون!

يجب الان ان نعلم ونؤمن بأن النقاشات والجدليات وطرح الاسئلة فقط، هي التي تُنتج مجتمعا مستنيرا بالمعرفة، لأن المعرفة قوّة، اما الاحتفاظ والانغماس بالموروثات التي كانت تناسب فقط وقت معين الزمن هي شكل من اشكال الجهل المحض ووهم المعرفة ليس إلا .

و حجة ان هذا من الفينا عليه اباؤنا هي حجة واهية، تجعل منا مجتمعا سهل الاخضاع دون ان نشعر، لأننا مجتمع وشعب وأمة بلا اسس معرفية سوية حتى بتأريخنا ذات نفسه احيانا!

المثقفون .

و من هنا تحديدًا نُدرك ماهية الثقافة في جوهرها بانها امرٌ يتعدى الكُتب او النخبة “المثقفة ”، ولا اقُلل هنا من اهمية الكتب او اهمشها او الغي ضرورة وجود نخبة مثقفة في اي مجتمع كان بل على العكس تمامًا، إذ لا مفر من اهمية الكتب، دليلًا على سعة الادراك وحسن اختيار مصادر المعرفة، فالكتب هي ترسيخٌ لأفكار اصحابها، وهي الوسيلة الاساسية التي من خلالها يكتسب المرء ثقافات ومعرفة اخرى، اما النخبة المثقفة فأنها العنصر الرئيسي لحركة المجتمع ونهوضه، لكن ماذا لو تم حجب ومنع مجموعة من الكُتب والمراجع العلمية والادبية التي تتبع افكار مغايرة لما هو سائد عن المجتمع او بمعنى ما، الافكار (الجريئة )؟الا اذا تم اعتبار السائد هو الحقيقة المطلقة، واي محاولة لطرح الاسئلة الفكرية والنقاشات، امرٌ من شأنه ان يدعو للانحلال الاخلاقي والتمرد على العادات؟

لماذا كل هذا “الخوف” من الاخر، ومن هو الاخر؟ وعلى اي اساس يتم تصنيفه؟ العرق، الدين، اللون، الشكل، الجنس، الجنسية، اللغة؟ بمجرد ان تصنف الاخر تبدأ العنصرية بالظهور، ربما يقول البعض انها دعوة للتخلص من الهويّة، كلّا، ليست الهوية ما تجعلنا في صراعٍ مع الاخر..

إن مجتمعات كهذه تخاف -بدرجة اساسية- من طرح سؤالين تبتدئ بـ “لماذا” و“كيف” ثم تدعي بغير منطقيّة انها تسعى وراء المعرفة والعلم !

و من خلال هذه المعُضلة تحديدًا هناك مجتمعات كثيرة يُقسّم فئاتها إلى “مثقفين /و اخرين من عامة الشعب ” رغم ان هذا المعنى لا يستقيم، لأن (بنظر المجتمع)، المثقفون هم الذين خرجوا عن السائد، الذي بالضرورة يُكبل افرداه عن المعرفة والوعي، ثم يتذمر بكل بجاحه اننا مجتمع يعاني الفُقر والمشاكل والامراض والانحطاط .

ومن هُنا دعوة لجعل فكرة القراءة (كل انواع القراءة وكل انواع الكتب والفن والموسيقى والعلوم والمعارف)، فكرةٌ اساسيّة لعامة الشعب والناس وفي الشارع العام كذلك، لا جزء منه فحسب.

و الثقافة “إن اردنا” تسميتها واطلاقها على من يحملون الكًتب ويسعون لإقامة مناسبات والمؤتمرات الثقافية، فأنها – اولا واخيرا- يجب ان تسعى سعيا حثيثا (اعني الثقافة) لبناء الانسان، دون أدني تحيز او سعي لإقحام الاجندة السياسية او الدينية او العرقية او تنميطها، او السعي وراء اخراس العقول بإبقائها على التبعية والخضوع وطمس كل ما هو من شأنه ان يَخلق ثقافةُ فكرية ثرية بالمعلومات والاسس .

و لربما كل ما سبق ذكره لا يبدو ذو اهمية، مقابل ما هو أهم كالوضع الاقتصادي، السياسي، المعيشي ..

لكنّ حريٌ بنا ان نفهم الان أن الشجرة التي تُزرع في بيئة ملوثة، وغير صحيّة تموت دون ان تشعر .

و عليه .. هنا، ان نؤكد اهميّة وجود الطفل/ الابناء، ضمن جيلٍ يتطلّع لكل جديد ابتداء من الاسرة الواحدة المتماسكة، وصولا لأساليب التعليم ضمن مناهجنا الدراسية تطمح لخلق فكر واسع وحُر، إلى الشارع العام، لأن البِناء الصحيح المتماسك والمبني على اساساتٍ قويّة، لا يصبح بناية عشوائية يومًا ما، ولأنَّ البنايات العشوائية تصبح بعد مدة من الزمن خطرًا على باقي المنطقة .


  • 4

   نشر في 29 يونيو 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا