الترفيه الاجتماعي في بغداد
"ليس بعيداً عن الأسواق كانت تجري في مقاهي بغداد طقوساً رائعة، حيث كان "القصخون" يتقرفص على كرسي خشبي ليحكي لرواد المقاهي قصص ألف ليلة وليلة ومغامرات علي بابا والأربعين حرامي.."
نشر في 24 غشت 2019 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
أظنكم تتفقون معي يا عشاق بغداد، أن جميلتنا عرفت التطور في وقتٍ مبكرٍ مقارنةً بمحيطها، لكن كيف كان يقضي البغدادي يومه قبل وصول التطور إليه؟ فضولٌ جميل يستحق أن نعطيه حقه في الكتابة، وهذا ما سأورده في السطور القادمة مع جزيل الحب لإعطائي هذا القدر من وقتكم الثمين.
لأن الغناء متجذر في الذاكرة البغدادية، لذا سأبدأ بشريحة المغنين،هذه الشريحة التي كان لها الدور في ترفيه المجتمع البغدادي وصناعة مزاجه. المغنون هم مجموعة من الناس امتهنوا الغناء كمهنة تدر عليهم بالمال، ومنهم من كان يعمل في مهنة أخرى فتركها وامتهن الغناء، ولعل أبرزهم هو قارئ المقام رشيد القندرچي الذي ينتمي إلى عائلة امتهنت صناعة القنادر ليتحول إلى رائدٍ من رواد المقام العراقي. لقد وصل المغنون إلى مختلف التجمعات البغدادية، فتارةً يغنون في المقاهي في حفلات "الچالغي"، وتارةً أخرى في البيوت يحيون حفلات الختان، بل وصلوا إلى المساجد ليقرأوا المناقب النبوية في حفلات المولد النبوي.
إن حفلات الغناء كانت لا تكتمل إلا بوجود "الشعاعير"، وهم رجال يحاكون النساء في أزيائهن، يمتهنون الرقص في حفلات الأعراس والزفات، مقابل أجور معينة. يلبس "الشعاعير" في أصابع أيديهم "الچمبارات" ويحركونها لتحدث أصواتاً متناسقة مع رقصهم. إن هذه الشريحة رغم كونها متدنية في المجتمع البغدادي إلا أن الناس كانوا يستدعونهم في مناسباتهم لإضفاء أجواء مميزة لأمسياتهم.
أما في درابين بغداد كان الترفيه مختلفاً، حيث كان لـ"صندوگ الولايات" حيزاً كبيراً بين الباعة المتجولين. إن حرفة "صندوگ الولايات" مميزة إذ كانت تجعل الناس يسافرون وهم في أماكنهم، حيث يحمل صاحب "صندوگ الولايات" على ظهره خزانة مصنوعة من الخشب، ولها واجهة أشبه بواجهات أبواب الأسوار القديمة، وكرسياً ليجلس عليه الصبيان والرجال لمشاهدة صور عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي، والاستمتاع برؤية مكة المكرمة والمدينة المنورة واسطنبول، بالإضافة إلى جميلات مصر وحلب، أو صور راقصات معروفات آنذاك. كل ذلك مقابل مبلغٍ زهيدٍ من المال.
ليس بعيداً عن الأسواق كانت تجري في مقاهي بغداد طقوساً رائعة، حيث كان "القصخون" يتقرفص على كرسي خشبي ليحكي لرواد المقاهي قصص ألف ليلة وليلة ومغامرات علي بابا والأربعين حرامي، بالإضافة إلى قصص المجانين الذين اشتهرت بهم بغداد، يؤدي صاحب المقهى في بعض الأحيان دور القصخون لجذب الزبائن إلى مقهاه كالراحل السيد إبراهيم عرب في الكرنتينة ببغداد. ظلت بعض طقوس الترفيه مستمرة واندثر بعضها الآخر لكنها حية وخالدة في الوجدان البغدادي إلى الأبد. محبتي.
-
إبراهيم بن حاتمإماراتي الأصل رافديني الهوى عاشق على ذمة بغداد