ذنبُ الأبرشي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذنبُ الأبرشي

لكل شخص ذنبٌ وكل رجل ابرشي

  نشر في 20 مارس 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .


هي إمرأةٌ من زمن المَوالي و الحِكايات ، هي عنصر البهجة في زمن الحاكم و المحكوم ..عاشقة للعود العربي و فرشاة الرسم ، هي المسجونة و الحرة ..هي دوران الحياة بفصولها الأربع ..

هي من قالتْ حين جلس طفل على حِجرها متأملا وجهها :" كيف للقمر أن ينظر لأخاه !..

لا تعرف الخوف من قول ما تريد ، هي الجميلة أو المليحة..قال عنها رجالٌ قبضتهم من حديد :

كانت مميزة وجميلة ..ذكية ، صاخبة الوجود والتجدُّد .. إذا حضرت إلى مجلس به أشخاص ذو شأن تعلو كلمتها فوق الجميع ..

قالوا عنها الكثير و جيل سمع عنها لكن لم تراها أعينهم  سوى الأبرشي..!

عمره ما بين الستين عاما وهو من حدَّث الناس عنها بحبٍ و عطف مبالغٍ فيه ..قيل أنه عاشقٌ لها و أنها عاشقةٌ للشخص آخر !

الأبرشي رجل منعزل ، قليل الكلام ..حديثه أغلب الوقت عن ما مضى فهو سجين الماضي كهذه المرأة!

الإثنان سجينان للزمن ..كان دائما يجلس وحيدا منعزلا يواسي هذه المرأة من بعيد ، يحدثها بصوتٍ عالٍ أحيانا كأنه تجاوز كل الأمكنة !

إنتظرته للساعات حتى يعود إلى دياره وأنا أصارع رغبتي في معرفة قصة هذه المرأة!

وبينما أمدُّ بصري بعيدا رأيته يأتي مبتسما ومحدثا في إستحياءٍ شخصا لا يظهر لي بينما هو مستمعٌ بصحبته!

مرَّ بجانبي ترددتُ في سؤاله أو التحدث معه فأكمل طريقه كأنه لا يرى أحدا سوى هذا الشخص ..

لم أكن أعلم أنه يجلس في بعض الأحيان وسط مجمعٍ من الناس يحدثهم عن هذه المرأة و زمنها !

كنتُ بالصدفة أمر من جانب مسجد التقوى فرأيته وسط الناس يحدثهم و الإبتسامة تسيطر على مُحياه ..فجلستُ أستمع له فقال في هدوء و يبدو أنه يعيش ما يجول في خاطره كل ثانية ، إستغربت كيف تحيا هذه المرأة فيه كأنها تسكنه !!

فقال :

هي من قالت حين وقعتْ عيناها على حبات فول منكسر: "  كيف كُسرتِ و أمامكِ الأبرشي !"

كنتُ قاضي أحكم بحبات الفول بين فقراء الحي فتجلس معي حتى تتعلمَ مني بعض العدل كما كانت تقول !

لِمنْ لا يعرف هذه المليحة فهي إبنة مزارع فارسي الأصل تعلمتْ الحساب و الكتابة و كانت تناضل كل صوت ذكوري معارضْ لتتعلمَ كيف ترد الحقوق إلى أهلها ..تعلمتْ الشعر و عزف العود وإمتهنتْ التعليم لتخرج نساء لينجبن رجال لا أشباه الرجال..


أتدرون أنَّها دونت نصوصا قانونية جديدة إتخدتْ فيما بعد كدستور في بلاد مغتصبة كانت قبلتها مكة وأصبحت الآن مجرد ثقب سوداء تدخلُ في جوفها مصائب قومٍ لا تنتهي ..

هي من وقفت على أعتاب المساجد تطالب بتشريع قانون يحمي علماء ذاك الزمن من السجن أو القمع فمن نصرها ..لا أحد !

ظهر الحزن على وجهه ثم قال :

كانت تحاورنا بعشق وتلقي السلام بعشق..هي التي تتحرك قلوبنا إذا تحركتْ وتبكي عيوننا إذا غابت ، كانت  مميزة ، إسمها لا نعرفه أو إنشغلنا عنه

لم نرى سواها !

تفرض على الجميع ما تريد ..تعاتب بأدب وتطالب بصوت كأن به غصةُ الخوف من الرفض !

لم تدرك أن من تحارب لأجلهن سيكون لهن دور في جعلها تعاني و تنطفئ ..إنتشر صيتها بين طلابها و دخلتْ كلُ كلمة إلى عقولهم فوجدت تجاوبا كبيرا لأفكارها

أذكرُ أنها تلبس ثوبا شبه ازرق ينسدل من كتفيها إلى الأرض و عيونٌ سوداء حادة جريئة تُسكتُ كل قلبٍ حاقد عليها وما أكثرهم !

في يومٍ ما وجدتها حزينة بجانب ساقية مياه فجلستُ بجانبها و لم تتكلم ..ظلتْ صامتة ، قالت وهي تبدو كمن سلبَ منه حقهُ :

يا ميزان العدل ، لما أحسُ أنني لستُ من هذا الزمن ..لاشئ يرضيني !

أذكرُ أنني لم أجبها قط ، تبسمتُ لها و مضيت أصارع إحساسي الذي بدأ يتسلل إليَّ أنها سَتُعاني!

مرَّ زمن ووجدتُ الناس منشغلةٌ بحادثةٍ ساحرة وما شابه ..لم أبالي و مضيتُ الى حال سبيلي حتى وجدتها تبكي و القهر يملأ صدرها ، ثيابها متسخة أمام دار القضاة!

إرتمتْ على الأرض أمامي تبكي و تتحدث لم أفهم شئ مما يحدث فوجدتُ الناس ترميها بالحجارة و تلقي كمية من اللعنات لا تنتهي !!

و بعد  أن صمتَ الأبرشي كان كأنه يستجعُ قواه ويلجمُ حزنه كخيل جريح قال :

لقد إتهموها بالسحر!

نساء من بلدتها قالوا أنها تسحر لأطفالهم و أزواجهم و تجعلهم يرددون كل كلمة قالتها ..كانتْ عيونهم تنطقُ كذبا وألسنتهم تجري مجرى المياه في قصص عنها لا تنتهي !

طالب الجميع بحبسها فكنتُ مع قاضٍ آخر نداول قضيتها لنجعل الناس تهدأ و تعطينا مبررا واحدا عن ما قيل ..لكن لا أحد يجيب !

كانت تموتُ في صمت وهي خلف جدران من حديد ..لم اتابعْ قضيتها في حين القاضي الآخر أمر بسجنها!

أذكر كيف كانت تصرخ بصوتٍ عال وهي تلبس ثوبا أسود وحول عنقها عقد ابيض قصير :

اريد الدفاع عن نفسي !

أكمل الأبرشي قائلا:

كنت لا أستطيع رؤيتها خلف الجدران و هناك فقدتُ إمرأةً ليست عادية ..فقدت معها نفسي ، إنهُ لأمرٌ صعب أن تخدل شخصا رأى فيك نجاته ..

تحاملَ عليها الجميع كانت غيرة من النساء وحقد من الرجال دمرَ هذه المرأة  و جعلوها تداعب خصلات شعرها الأبيض داخل حفرة تسمى سجن !

قمتُ بزيارتها وكنت لا أعرف كيف سأواجهها فدخلتُ عليها في حجرتها الضيقة ..جلستُ أمامها ولم تحرك ساكنا وكانت ستنفجر من الغضب و الحزن فأذكر أنها لم تتكلم و أعطتني رسالة أوصلها إلى رجل !

كانت تدركُ أنها ستبدأ مرحلة جديدة ستتطلب منها قوة مضاعفة ..

إنتهت زيارتي لها وخرجت ممسكا بتلك الرسالة أحاول عدم العبث بها لكنني لم أقاوم رغبتي وفضولي في قراءة من يكون هذا الرجل !

كانت رسالة مليئة بالحب و العطاء..أدركتُ أنَّ مخاوفي تحققت وأنها لم تكن لي منذ البداية ، إنفردت بكلماتها له وكانت مختلفة فيها نبض وحياة وشوق للقاء وأمل للخلاص !

لم يكن هناك إسمٌ له فقط عنوانٌ غريب

" ديوان الشعراء"  بحثتُ عنه فوجدته ووجدت أيضا مكان مخصص للرجل يأتي كل مدة ويرجع إلى موطنهْ ..أحببت كونها مسجونة و من غيرتي شهدتُ ضدها وسجنت مدة طويلة ، كنتُ العنُ نفسي كل يوم فكانت عينُ الله حاضرة و كذلك عين الشيطان فإخترتُ الأخير آملا في الخلاص من غيرتي التي تكاد تقتلني !

لم يوافق القاضي على أن تدافع عن نفسها خوفا من أن يُسحر هو كذلك !

كانت تتكلم ببلاغة وتعرف القانون جيدا فبعد سنة زرتها و كانت مختلفة ..رأيتها إزدادات قوة وثبات فقالت لي :

كسرت حبة الفول أيهاالأبرشي !

لما أتيت !

كنتُ  أريد منها عاطفة في حين سلبتُ منها حريتها !

أذكرُ أن الناس نسيت أمرها فهي بالنسبة لهم غريبة و مجنونة وبعض الرجال يروا فيها أنوثة طاغية وعصيان وتمردْ ..كنتُ عند كل زيارة يبقى هناك بعضٌ مني فأخرج في كآبة و أصبحُ منعزلا ..

كانتْ آخر زيارةٍ لي هناك ..إشتقتُ لها فبعد مدة قرر ذاك القاضي أن يقوم بترحيلهاإلى سجنٍ بعيد بتموت بعيدا عن عينيه !

لم أدرك أن حكايتي ستبدأ من هنا ..رحلتْ عني تاركةً فراغا يوحي بالعدم،

تركتْ الموت و جسدٌ كارهٌ لهذه الروح !

جلستُ كل يوم أعتذر لها ولم أعتذر..تظنُ أنني كسرتُ حبة فول فقط ولا تعلمْ أنني سحقتها حتى آخر قطعة..

لا تستغربوا كمية هذا الوجع فليست الكلمات دائما تنجح في مهمتها..هي كانت امرأة وأصبحتْ طيف يلازمني و ذنبٌ يُؤرقني ، أحببتها من دون أن أعرف أو أبوح..

ربُ العشقِ أدرى بكلماتي فلستُ مجرما ولا بريئا أنا الضائع بين السواد والبياض و على خيوط شمس  الغد ألفظ كلمات الغفران وصورتها أمام عيني ..فلستُ أهلا للحبْ مادمتُ سجانا للحبيب

أرسم  إبتسامتها على وجهي و أنظر بعينيها إلى الوجود لعلي أعطيها جزءا من الحياة التي حرمتْ منها ..أشكو إلى ساقية المياه تلك لعلَّها تحملُ عني بعضا من الحزن وتلقيه في جوفها لتدرك أنني مازلتُ على بابها أنتظر !

يا أيها الناس ، إنها مني وانا منها

جننتُ ليلا لأبدو لكم عاقلا نهارا ..تأتيني زائرتي كل ليلة تعاني و تمسك بيدي تنظر بحزن إليها فتقول :

إنكسرتُ أيها الأبرشي..قتلتُ بكلماتٍ تدور حول فم الشيطان ، لازلتُ أنتظر منك مفتاح الحياة !

فيكملُ الأبرشي و بكاءٌ يزور عيناه ونحنُ ننظرُ إليه في لهفة قائلا :

أقومُ من نومي شبه ميتْ ..لا حياةَ وانتَ فاقدٌ ومفقود .

لا أعرف مكانها ما الحل !!

نظرَ في حزنٍ و غادر هذا المجلسْ  ، وجدتُ نفسي وراءه فقلتُ له :

هل ماتت ؟!

وقف ثم نظر إلي السماء فقال :

نعم ..فأين أجدها !

أين هيَ ..سأعطي لك كل ما أملك مقابل أن ألتقي بها ، لقد أخذت مني كلي وتركتني فارغا.. هشا ، لا أقوى على شئ !

قلتُ مستغربا : لقد ماتتْ وأنت تعلمْ ذلك فأين تريد البحث عنها ؟!

قال :

في قلوب العاشقين ..

في عيون المظلومين ..

في روح العظماء ..

في الوجود و العدم ..

فلتعلمي أنها من تحدث إليكم ولستُ أنا فهي منذ زمن من تملك هذا الجسد .





  • 6

   نشر في 20 مارس 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Youssef nasiri منذ 5 سنة
من أروع ما قرأت ابتسام ، بالتوفيق
1
Ahlem Ben Arfa منذ 5 سنة
استمتعت بقراءتها ابتسام
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا