أن يرحل عنك نصفك..
عن الحنين وفقدان الوَنَس
نشر في 20 ديسمبر 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
تَمُر اليوم الذكرى الأولى لرحيل والدة رفيقي في العمل، أعرف ذلك وأذكر ذلك التاريخ جيداً، وأذكر تفاصيل الحادث، أتألم كلما تجددت في داخلي الذاكرة وتوهجت بعد انطفاء، مر من جانبي فور وصوله وهو يحمل كوب القهوة المعتاد، مرور الكرام، كنسمة صيفية لا يُسمع لها صوت، رأيته يجلس إلى مكتبه ويعمل في صمت وكأن الذكرى لم تخطر بباله، أو كأنه أسقطها من ذاكرته متعمِّداً!
خلال فترة الراحة قبيل انتصاف النهار شددتُ كرسيَّ وجلستُ إلى جانبه صامتة، أتأمله وأمعن النظر في ملامح وجهه وعينيه، أتلصصُ كي أتأكد إن كان ثمة هالات سوداء أسفل عينيه، أو شحوب بادياً على وجهه، أريد الاطمئنان عليه ولا أجد إلى ذلك سبيل، كسر الصمتُ وبادرني بسؤال:
- أجيبيني بأمانة ولا تكذبي، أمرّ عام؟ أم ألف قرن؟ وحدثيني، ما الفقدُ؟ إنني بقدر افتقادي لها، وبقدر ما يتوقد في داخلي الحنين، فإنني حقاً لا أكاد أشعر بالوحشة، حتى أجد منها طيفاً عابراً، وريحاً طيِّبة، كرائحة القرنفل في كوب شايها، والمسك والعنبر في حبَّات المسبحة، وفي طيَّات سريرها، وبين أرفف كتب والدي التي كانت تؤنسُها في يومها، ما الفقدُ،؟ أجيبيني، إنني حقاً بقدر ما أعرفه، أجهله.
لم أجد رداً وقتها، أثارت كلماته ذاكرتي، وذكرّتني بأحباء رحلوا عنّي منذ زمن، بعد انتهاء اليوم ورحيل كل منا إلى منزله، أرسلتُ له رسالة عبر الماسنجر قلتُ فيها:
- أتعرِف ما الفقد يا خليل ؟ الفقد، يعني أن يرحل عنك نصفك، أن يغلب الظلام ضوء النهار، أن تدرك أنه لم يعد هناك نهار..
الفقد.. أن تفقد روحك، ويفتقد الجميع روحك وحضورك..
أن تكون حاضراً غائباً، لأنك بكل جوارحك، مع الغائب الحاضر..
والفقد أن تتعجَّل رحيلك، لتلحق بمن رحلوا، و تغالب وَحشَتك دون جدوى.. وأنا حتى الآن أُغالب، وأحاول حتى آخر رمق أن أحيا، ولا أتعجل ذهابي، لأن التعجُل يضيف إلى السنين دهورا، وأنا يا خليل لم أعد لأحسب الأيام، فقط أدعها تَمُر، وأشكر الله على نعمة الطمأنينة بعد الجزع، والصبر بعد القنوط.
-
زهراء محمد رضامدوِّنة مصرية وكاتبة نصوص أدبية، مهتمة بالرواية والشِعر، صاحبة ديوان "ناي وقانون" ، الصادر بالعامية المصرية عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع.. أحاول خوض تجربة الكتابة الروائية، وأحاول البحث في الكتابة عن ذاتي.. وفي الق ...