شهود الزّور بالمال و الزّهور

أيّام مجد الأندلس ( الفردوس المفقودة ) : كان أحد أحبار اليهود ينصح رعاياه من تجار الذهب و الفضة إذا أرادوا السفر للبيع و التجارة .. كان ينصحهم قائلاً : إذا دخلتم أيّ بلدة فلا تنخدعوا بمظاهرها و أوّل شيء يجب القيام به هو أن تتأكدوا من دار القضاء .. فإذا وجدتموها تعجّ بالناس و بالمتقاضين فاخرجوا من البلدة فوراً لأنّ كثرة الناس بدار العدل دليلٌ على كثرة المظالم و إذا كانت شبه فارغةفلا تبرحوا البلدة و تجارتكم لن تبور .

تذكّرتُ هذه المقولة و أنا أتابع بالأمس- و بصدمة كبيرة - برنامج ( 45 دقيقة ) على القناة الأولى .. حيث يدور الموضوع حول شهادة الزور تحت الطلب .. و كم كانت صدمتي أكبر عندما قام أحد الصحفيين بعد أن دسّ كاميرا خفية في معطفه حيث ذهب إلى جوار المحكمة لإحدى كبريات المدن .. نعم و بالصوت و الصورة و بعد دردشة مع الوسيط سيتّم اللقاء بأناس تتفاوت أعمارهم بين الثلاثين و الخمسين سنة و كلّهم مستعدّون للإدلاء بشهادة الزور على أكمل وجه بشرط تزويدهم بالمعلومات الأولية حول القضيّة سواء كانت جنحية أو عقارية أو ما شاكلهما تمّ تزويدهم بمعلومات كافية حول الشخص المستهدف و بعد هذا تبدأ المساومة الماليّة و المثير للعجب هو أنّ بعضهم عنيدٌ في المساومة و لا يتنازل أبداً عن المبلغ الذي حدّده سلفاً و كأنّه يريد أن يقول : رحم الله مرؤاًً عمل عملاً فأتقنه .. و الأكثر من ذلك يريد أن يقول : ألا أستحق جزيل العطاء و أنا سأقسم و أحلف لصالحكم بأغلظ الأيمان ؟

نعم .. وفي غضون العشرين دقيقة الأولى من عمر هذا البرنامج سوف تكتشف أنّ مفهوم البطالة المُقنّعة قد تحوّل إلى مفهوم آخر و هو البطالة السّافرة المدمّرة .. و ليس من صفاتها فقطمهنة شهادة الزور عند هذه الشريحة بل سينتقل نفس الصحفي المتنكر بالكاميرا الخفية إلى فضاء آخر و نوع آخر من شهادة الزور .. إنّه فضاء المستشفيات العمومية و هنا الطّامة الكبرى و هي الحصول على شواهد طبيّة تشير إلى مدّة محدّدة للعجزو مع الأسف الشديد هناك من الأطبّاء من يسلك هذا النفق بمساعدة بعض الممرضّين بدون وازعٍ أو ضمير .. مع أنه يعلم علم اليقين أنّ مثل هذه الشواهد المزورة سيستعملها المستفيد أي (طالب الزّور ) ظلماً و عدواناً للنّيل ممّن يريد تصفية الحساب معه .. حيث ذكّرني هذا بأحد الأفلام الرائعة و بالمناسبة أنصح بمشاهدته و هو بعنوان :

 ( كلّنا في سراح مؤقت ) )Nous sommes tous en liberte provisoire

نعم و هناك نماذج أخرى من شواهد الزور نجدها تتقنّع بقناع الرشوة و التي أصبح فعلها كفعل النار في الهشيم بل و أمستْ عُرفاً و تقليداً في نسق المزاج العام للمجتمع و لاحول و لا قوة إلاّ بالله .. و بالتالي أصبحنا أمام سوقٍ قائمة الذات هي الأخرى تخضع لقانون العرض و الطلب و ربّما لا ينقصها إلاّ المزاد العلني أمّا المزاد السرّي فحدّث و لا حرج حيث الأسهم بين مرتفعٍ و منخفضٍ .. و المظالم بين محْبوكٍ و مقصودٍ .. و المحاضر بين مطبوخٍ و مسلوخٍ .. و الأحكام بين مشبوهٍ و منْحولٍ .. أمام هذا و ذاك فالكلّ مسئول .. و مسألة التّورط تتفاوت هنا طبعا بتفاوت درجات انعدام الأخلاق و الضمير .. أمّا الساكتون عن الحق و من ضمنهم ( المثقفون) فتورّطهم أدهى و أمرّ ذلك أنّ صمت المثقف و سكوته عن الجهر بالحق سواءٌ عن طريق القلم أو المنبر ما هو إلاّ انتحالاً مفضوحاً لصفة الشيطان الأخرس .

بلغة (الاقتصاد السياسي) سألني أحدهم يوما : أليس غريباً و بعد الاستقلال بستين عاماً لا زلنا في طريق النمو ؟كان جوابي  مختصراً : (طريق النمو) مجرّد غاية .. بينما (طريقة التنميّة ) هي الوسيلة و الكيفيّة الكفيلة لتحديد تلك الغاية .. وعوض أن نضع الحصان أمام العربة قمْنا بقلب الآية .. فلا الحصان قادر على التحرّك و لا العربة تستطيع الحركة .. و بين التّحرك و الحركة تأتي لاحقاً كلُّ البركة .

بقلم : تاج نور الدين .