التّراث الفلسطيني
بين الحكاية المسلوبة والهوية المغتصبة
نشر في 29 مارس 2020 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
يمثل التّراث الفلسطيني المخزون التّاريخي للشّعب الفلسطيني عبر العصور المتعاقبة والذي ورثته الأجيال عن بعضها البعض، وفوق ذلك كله يمثل هوية الشّعب الفلسطيني والعمق التّاريخي والحضاري له على مرّ الأزمان المتعاقبة ، يمثل في جوهره حكاية أرض وماء وهواء وسماء ، حكاية فنون شعبية، وأذواق وطبوع مختلفة في الألبسة، والأكلات، والأغاني الشعبية من أفواه الجدات، تراثٍ عريق وغني بما يحمل من معان ودلالات ، يزخر بالأثواب المطرزة التي تحمل خصوصية المكان والزمان، لكل مدينة من مدن فلسطين، بالإضافة إلى الأمثال والعادات والتّقاليد وغيرها من القصص والحرف اليدوية والمشغولات والمطرزات.
تراث يمثل الهوية الفلسطينية بمختلف أشكالها. إذ هي دليل الوجود وسرّ الصمود، هي الوجه الحقيقي الذي لا يمكن لأيّ قناع مهما كان أن يخفي جمالها، لأنّها وببساطة عندها تتساقط الأقنعة. هذا ما لم يفهمه الكيان المغتصب للأرض والعرض، حيث راح يغلف وجهه القبيح بقناع يخفي وراءه وجه مغتصب، لم يكفه ما يفعله على الأرض من حفريات وهدم وتنقيب، وتشويه للمواقع الأثرية الفلسطينية، والإنفاق الضخم للأموال على الحفريات، وإقامة المتاحف، واستقطاب علماء الآثار ورعايتهم، بل قام بأعظم جريمة على وجه التّاريخ الإنساني، فاقت في قبحها جرائم القتل والتّنكيل، هي ببساطة جريمة سرقة التّاريخ
وتشويه الحقائق على الأرض، ونسبة كل ذلك إلى إليه، ليدلّل على وجوده الكاذب عبر اغتصاب هوية شعب.
قال المؤرخ صاحب موسوعة "أطلس فلسطين" سلمان أبو ستة إنّه لا توجد في التّاريخ أيّ قوة استعمارية عملت ما فعلته الحركة الصهيونية من استلاب وطمس للتّراث والتّاريخ الفلسطيني، وذلك لأنّ هذه الحركة تعيش خارج التّاريخ والجغرافيا فتسعى للّتعويض عن ذلك بسرقة الأرض ثمّ العقول واستلاب التّاريخ والهوية الفلسطينية"، وأكد أبو ستة أنّ منظمة اليونسكو رفضت طلبات تقدمت بها إسرائيل لتسجيل أماكن فلسطينية بوصفها تراثا يهوديا، مثل قضية "تل القاضي" التيّ حاولت إسرائيل تسجيلها باسمها وفشلت حين نجح الفلسطينيون في الدّفاع عن حقهم فيها، ولكن إسرائيل نجحت في قضية تسجيل "كهوف بيت جبرين". وأرجع سبب ذلك إلى أنّ الطرف العربي أحيانا لا يقدم دلائل كافية تقنع اليونسكو. كما أنّ المنظمة ترى أنّ أثرا معينا واقعا تحت سلطة واقعية لحكومة ما فتقدم دعواها على دعوى الطرف الآخر. كهوف بيت جبرين.
بل تعدا الأمر إلى سرقة مأكولات فلسطينية تراثية ونسبتها إلى أنفسهم، من الفلافل إلى المسخن الذي صاروا يقدمونه ضمن الوجبات، وخاصة على متن الطيران الإسرائيلي "العال"، كما بدأوا بسرقة الزّي الفلسطيني التّراثي، حيث تعمد مضيفات طيران الخطوط الجوية الإسرائيلية إلى ارتداء الثّوب الفلسطيني.
المطرز بالقطبة الفلسطينية التيّ تعتبر من تراث الآباء والأجداد لدى الشّعب الفلسطيني.
ولم تسلم النّباتات الفلسطينية والعربية من القرصنة "الإسرائيلية"، حيث اختارت زهوراً برية ونباتات فلسطينية لتمثيلها في حديقة الورود التّي أقامتها الصين بمناسبة استضافتها للألعاب الأولمبية في العام 2008، خاصة زهرة "قرن الغزال" و "زهرة شقائق النعمان" و "شجرة الزيتون"، لتثبت باسم اسرائيل في حديقة الصين.
أما عن سرقة المأكولات الفلسطينية فحدّث ولا حرج عن اللّصوصية "الإسرائيلية" التي وصلت إلى حد المشاركة في المهرجان السّنوي "للمفتول" المنعقد بمدينة "سان فيتو لوكار" الإيطالية عام 2000 لتفوز بالجائزة الأولى لأحسن طبق مفتول، وكذلك المشاركة في مسابقات عالمية أخرى للطهو بالأطباق الفلسطينية وتسويقها معلبة أو تقديم هذه الأطباق في المطاعم العالمية على أنّها أكلات شعبية "إسرائيلية".
أمّا عن الفلكلور الفلسطيني فهو الآخر لم يسلم من السرقة وتمّ انشاء الفرق "الفولكلورية الإسرائيلية" في الحفلات العالمية بالزّي الشّعبي الفلسطيني وتؤدي رقصة الدبكة وتعزف "الشبابة والأرغول" وغيرها من الألحان الفلسطينية والعربية الأصيلة والشهيرة جداً ولكن بلكنة عبرية، مثل أغنية "الدلعونا".
كما سعى الكيان المحتل إلى الاستحواذ على الأثواب المزركشة القديمة لأرشفتها في الموسوعات العلمية، لعرضها في المعارض العالمية على أنّها "تراث إسرائيلي"، في قرصنة واضحة للملبس الفلسطيني التّقليدي الكامل من الزنانير والكوفية المطرزة في خطوط الموضة إلى "التّصميم لبيوت الأزياء العصرية الإسرائيلية". وكذلك تمت إقامة عرض أزياء في مدينة تلّ الربيع (تل أبيب) لمصمم الأزياء الإسرائيلي يارون مينكوفسكي أطلق عليه تسمية "أسبوع تل أبيب للموضة"، حيث ظهرت العارضات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض، والأحمر والأبيض
ولم تتوقف محاولات السرقة عند ذلك فحسب، حيث سرق مؤخراً المصمّمان الإسرائيليان "جابي بن حاييم" ، و"موكي هرئيل تصميم" الكوفية الفلسطينية المعروفة، وجعلاها بألوان "علم إسرائيل"، و"نجمة داوود". وارتدت زوجة موشي ديان وزير الحرب الإسرائيلي في ستينات القرن المنصرم في إحدى المناسبات العالمية ثوباً فلسطينياً زاعمة أنّه تراث "إسرائيلي". وكذلك ارتداء رؤوفيه روبين أول سفير لإسرائيل في دولة رومانيا الزّي الشّعبي الفلسطيني باعتباره زيا توراتيا، وارتداء الإسرائيليات فستان العروس الفلسطينية ببيت لحم المعروف بـ "ثوب الملكة".
وما ساعد على ذلك تسرب تلك الملابس القديمة مع كثير من النّحاسيات والصكوك المعدنية، ومصنوعات الفخار، وأدوات زجاجية تراثية، ومنتجات فنية، إلى المتاحف الإسرائيلية لتنضم إلى ما يسمى "بالتراث الشعبي الإسرائيلي" لتعرض على أنّها آثار العبريين القدماء، بعد احتلال فلسطين والاستيلاء على مقدراتها.
أمّا في مجالالتّراث الشّفوي فقد انتحل الإسرائيليون الحكايات الفلسطينية والعربية،
، حيث يذكر الدكتور منعم حداد أنّه حتى صيف عام 1986 كان في أرشيف الحكايات الشعبية "الإسرائيلية" (18500) حكاية كان قد صُنّف منها (11944) حكاية على أنها حكايات "إسرائيلية"، ولكن منها ما نسبته 65 % حكايات من يهود الدول العربية والإسلامية، ومنها (215) حكاية فلسطينية.
كل ذلك بعلم الكيان الصّهيوني الذي أحجم عن منع هذه الظّواهر، إلاّ إذا تعلق الأمر بما تعتقد أنّه له علاقة بالتّاريخ اليهودي، وهذا نوع خطير من السّرقة ألا وهو سرقة تاريخ الأمم الأخرى وتحويلها إلى تاريخ إسرائيلي.
لابد علينا في الأخير أن نحمي تراث الأمة من التّشويه والتّحريف والسّرقات عن طريق الدّفاع عنه بالدلائل والبراهين، والعلم والمعرفة، ونثبت للعالم زيف الادعاءات الصهيونية الكاذبة.
-
محمد يسين لهلاليأستاذالشّرعيات بالمعهد الوطني لتكوين الإطارات الدّينية