ما هي الديموقراطية ؟
خلق الله تعالى الإنسان وخصّه بالتكاثر كسائر المخلوقات , لإعمار الأرض وبثّ الحياة فيها , وما أن تكاثر الإنسان , وصار أكثر عدداً ونفيراً , وتحوّل الفرد منه إلى جماعات , عندئذ صارت الحاجةُ مُلِحّةً لإيجاد شخصٍ يحكم تلك القُطعان البشرية وينظّم شؤونها , ومن هنا نمت البذرة الأولى لأنظمة الحُكم , التي سُرعان ما تتطور لتتخذ أشكال عديدة مع مرور الزّمن وتعدّد الحضارات والشّعوب الّتي قامت على هذه البسيطة.
فالديموقراطية هي كلمة تعني بشكلٍ حرفي"حُكم الشّعب" , وهي نوعٌ من أنواع أنظمة الحُكم الّتي هي ليست بجديدة على السّاحة السّياسية , والّتي لم تكن إحدى ولادة العصر الحديث , حيث تمّ استخدامها كنظام حُكم لأول مرة في العصر اليونانيّ القديم , وتحديداً في أثينا القديمة , حيث كان الرجال ينتخبون مرشّحهم من الفئة العليا أو الأرستقراطية , بينما مُنِعت النّساء والعبيد من ذلك , إلى حين انهيار نظام العبودية في القرن التاسع عشر في أوروبا , وزيادة الوعي بشأن حقوق المرأة , حتى تمّ الوصول إلى إتاحة حقّ الانتخاب لجميع فئات الشّعب في الديموقراطيات الحديثة دون تمييز.
أنظمة حكمت العرب عبر الزّمن ..

لنسلّط الضّوء قليلاً على واقع المنطقة العربية , فالعرب بطباعهم شعوب تتألف من جماعات متفرّقة على شكل قبائل , ولكلّ قبيلة شيخٌ يحكمها ويبتّ الأمر في شؤونها , وتكون أُسس اختيار الشّيخ بناءً على النّفوذ والوضع الاقتصادي كعدد الأراضي الّتي يملكها أو ممتلكاته من الثّروات الحيوانية , ولم يكُن هناك عبر التّاريخ أي رابطة تضمّ تلك الجماعات المتفرّقة وتجمعها تحت مظلّة واحدة ككيان واحد ذو شكلٍ محدّد ومعلوم الأركان والهُوية , حتى جاء القرن السّابع حاملاً معه الدعوة المحمّدية ممثلة برسالة الإسلام , الّتي ستكون الأساس المتين لبناء كيان ثيوقراطي "دولة ذات حُكم ديني" سيفرض نفسه لمدّة طويلة عبر الزّمن , وذلك لفترة تمتدّ من القرن السّابع حتى أوائل القرن العشرين , مع الأخذ بالاعتبار تبدّل أنظمة الحكم والحكّام واحتكاك الشعوب العربية بالشعوب الأخرى والتأثر بهم والتّفاعل معهم.
فبعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم , برزت الحاجة إلى وجود حاكم يضبط شؤون المدينة المنوّرة ويتعامل مع القبائل العربية الّتي غادرت مركب الإسلام مع وفاة النّبي , ولذلك اجتمعت مكونات المجتمع المدنيّ آنذاك من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة ؛ ليتشاور الفريقان المتنافسان على الحكم , وليقع الاختيار فيها على أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليتولّى زمام الأمور ولينشئ حينها نظام الخلافة , وهو نظامٌ أقرب ما يمكن إلى الملكية المطلقة ؛ حيث يتولّى فيه الحاكم إدارة شؤون الدولة بأكملها بمفرده , ويستمر بذلك حتى انتهاء أجله.
ولكن لم تكن على الدّوام طريقة اختيار الخليفة عن طريق الشورى , فقد استطاع على سبيل المثال والي الشّام معاوية ابن سفيان في عام الجماعة "41هـ" أن يوحّد الأقطار الإسلامية تحت رايةٍ واحدة , وذلك بعد أن تنازل حسن بن علي بن أبي طالب عن الَحكم , فشرَع معاوية بتأسيس الدّولة الأموية وهي أحد أكبر الإمبراطوريات العربية عبر التاريخ , وأورَث حكم الخلافة لابنه يزيد , وبذلك بات سير عملية تداول السّلطة في الخلافة عن طريق الوراثة بدلاً من نظام الشورى , وهو النهجُ ذاته الّذي سارت عليه فيما بعد الخلافة العبّاسية والفاطميّة مروراً بالسلاجقة الأتراك والمماليك والعثمانيين.
حجر الأساس لبناء الدّيموقراطية ..

اختيار المرشّح المناسب : فلو افترضنا على سبيل المثال , إقليم معيّن في إحدى المناطق العربية , وأراد سكّان ذاك الإقليم إجراء الانتخابات وخوض غمار التجربة الديموقراطية بشكلٍ حقيقي , فسنجد عند صدور النتائج أن الناخبين سيختارون المرشّح الّذي تربطهم به صلة قرابة , وسيفضّلونه على حساب المرشّحين ذوي الخطط الإصلاحية والحلول الحقيقية , وعندها سيطفو إلى السّطح شخصيات متسلّحين بالدّعم الّذي توفّره العشيرة ذات كفاءات منخفضة دون منهجية عمل محددة , وسيسهمون بالتالي بتعطيل المسيرة التنموية.
احترام نتائج الصّندوق في الأحوال كلّها : فينبغي على النّاخبين بشكلٍ عام أو أنصار مرشّح معيّن بشكلٍ خاص احترام نتائج الاقتراع مهما كانت , وعدم القيام بتصرّفات تعود آثارها المدمّرة على المجتمع بشكلٍ سلبي , كتخريب الممتلكات العامة , وقطع الطّريق , أو حتى افتعال المشكلات والمشاحنات مع الأطراف الأخرى المنتافسة , كأحداث العنف الّتي جرت في انتخابات المجلس التّشريعي الفلسطيني عام 2006 بين حركتيّ فتح و حماس , والّتي أصيب بها العشرات جرّاء تلك التوترات , لذا فيجب الحفاظ على مقدّرات الوطن وعدم الانجرار خلف أيّ أصوات أو الشّعارات الّتي قد تقود لإشعال الفتنة بين أبناء التراب الواحد والمصير المُشترك.
توفير بيئة سياسية آمنة : فمن الواجب على الدّولة توفير عدد من القوانين والتشريعات ؛ وذلك لكي تحمي الحرية السياسية للمواطنين وحقّهم في التّعبير عن رأيهم دون أيّ نوع من المضايقات الّتي قد تُمارس بحقهم , وبالتّالي يُباح للمواطنين عندئذ الانضمام للأحزاب بشتى التّيارات والتوجهات الفكرية بشكل آمن , دون ممارسة أي تضييق من السّلطات على الأفراد , وهو ما سيتيح للأحزاب حرية العمل وإقناع المزيد من الأفراد بأفكارها , وبالتّالي ستتمكن من بسط نفوذها على السّاحة وتوسيع قاعدتها الجماهيرية بشكل أكبر.
احترام الآراء وتنوّعها : إن مهمة التّحوّل الدّيموقراطي تتطلّب تحلّي الأفراد بعدد من الأخلاقيات الواجبة لإنجاز مسيرة التّحوّل بالشّكل المطلوب , مثل تبادل الآراء والأفكار مع الآخرين بهدوء , الاحترام المتبادل بين المتحاورين , الابتعاد عن التّطرف وإقصاء الآخرين , تقبّل الآراء وتباينها ما لم تُسهم في إيذاء أحدهم , احترام الاختلاف وعدم تحقير آراء الآخرين وتسفيهها , وعدم استعمال السّب والشّتم كأداة للمجاراة كلّما ضاقت عليك زاوية الحوار , فيمكنك الاستعاضة عن ذلك بردّ الحُجة بالحجة والمنطق بالمنطق بدلاً من التّطاول والإسفاف وذلك لأجلِ حوارٍ هادفٍ ومفيد .
نشر الثقافة الديموقراطية : فهذه الخطوة تُعدّ من أهم خطوات إرساء وإتمام التّحوّل الدّيموقراطي لأيّ مجتمع , حيث يتمّ التّركيز فيها بشكل مباشر على تّوعية الأفراد ونشر الأفكار الدّيموقراطية بشتّى الوسائل التّعليمية والدّعائية , في المدارس ومؤسسات المجتمع المدني وفي وسائل الإعلام ؛ وذلك لبناء المجتمع الواعي بحقوقه أولاً , والنّاضج ديموقراطياً ثانياً , حيث يتمّ ذلك على المدى الطّويل وبمنهجية وخطة واضحة.
تلافي الدّيموقراطية الطّائفية : إنّ المُطلِع على أحوال المنطقة العربية في العقدين الأخيرين , سيلحظ دون شكّ بروز أثر ودور الأحزاب الطائفية في رسم مشهد الأوضاع السّياسية في المنطقة , فتلك الأحزاب تنتهز الظّروف المناسبة للظهور على سطح المشهد , مثل غياب الحرّية السّياسية , وانهيار الأوضاع الاقتصادية , وانتشار الفساد , والشّعور بالاقصاء والاضطهاد وغياب التمثيل الحقيقي للطّائفة , فتدفع تلك الظروف أحد مكوّنات الشّعب الّذي تجمعهم تلك الرّابطة الطّائفية إلى التّكتّل والّذين سرعان ما يكوّنوا حزباً يمثّلهم, والّذي تكون أنشطته سلمية في بادء الأمر , لكن إذا لم يتم إيجاد حلٍّ للظروف الّتي ساهمت في تكوين ذاك الحزب , وحصل تدهور للأوضاع الأمنية في البلاد , فإن الحزب سيسارع لإنشاء جناحه العسكري من خيرة أبناءه وذلك للدفاع عن مصالحه , وعلى سبيل المثال لا الحصر , حركة أمل الشّيعية في لبنان , وحزب الدّعوة العراقي.
فالديموقراطية الطائفية بشكلٍ عام والأحزاب الطائفية بشكلٍ خاص عبارة عن قنابل موقوتة مستعدّة للانفجار في أي وقت ؛ لتحرق الأخضر واليابس في حال حصول اضطراب في البلاد لا تستطيع جميع الأطراف احتواءه , وأضاف إلى ذلك سهولة بيع وشراء ذمّة بعض الأحزاب وبالأخصّ إذا ما توفّر دعم خارجي لتلك الجماعات فستختلّ بوصلتها الوطنية ويصبح شغلها الشّاغل إرضاء رغبات الدّاعمين في الخارج وتطلّعاتهم , مثل الفصائل والميليشيات الملقّبة باسم الجيش السّوري الحرّ والّتي تفككت هي اليوم بسبب الهزائم المتتالية على أرض المعركة وتعدّد الدّاعمين وأجنداتهم مما صعّب عليهم الانصهار في كيان واحد تحت قيادة ورؤية يتّفق عليها الجميع.
أين يكمن الخلل ؟
فخلاصة القول , هو أن الشّعوب غير النّاضجة ديموقراطياً سيكون أثر تطبيق واقع التّجربة الدّيموقراطية عليها ذو أثر سلبي , فإن كان الشّعب تتجاوز فيه القبيلة الأدوار الاجتماعية أو تتجاوز فيه الطائفة الأدوار الدّينيّة وصولاً إلى الأدوار السياسية , وكان هذا الشّعب غير واعٍ سياسياً بشكلٍ كافٍ ؛ لكي يختار مرشّحه بناءً على مبدأ الكفاءة والاستحقاق بعيداً عن صلة القرابة أو الطّائفة , ولا يتحلّى بأخلاقيات الحوار والنّقد البنّاء , فلن تحمل تلك التّجربة الدّيموقراطية النتائج المرجوّة منها.
وبالنّظر إلى أنظمة الحكم عبر تاريخ المنطقة فسنجد أن الشّعوب العربية كان يكفيها حاكم شمولي عادل يحقق الرّخاء والأمن ويقوم بتوزيع الثّروة على رعيته بالتّساوي دون نقصان , لكن هذا الكلام يسهل علينا الحديث عنه من النّاحية النّظرية , لكن إذا ما تناولنا الموضوع من ناحيةٍ أخرى , سيتضح لنا جليّاً أنه من الصّعب علينا تطبيق هذا الكلام على أرض الواقع , كما أن فرصة حدوثه عبر التّاريخ تكاد تكون نادرة , فلطالما كان الاستبداد تربة خصبة لنمو الفساد والظّلم , وإهدار وسرقة المال العام دون رقيب أو حسيب ,والتّراجع في احترام الحقوق الإنسانية , أضف إلى ذلك هشاشة الأنظمة الاستبدادية الّتي سرعان ما تتداعى بسبب الفساد الّذي ينهش بنيانها والظّلم المُتفشّي فيها كالموت الأسود الّذي يأخذ من عمرها الكثير , حتى نصل نقطة النّهاية ولحظة السّقوط المدوّي , ففي كتب التّاريخ كثيرٌ من القصصٌ والحَكايا فيها كلّ العِبر لنَعتَبِر.
ولكن في الحالات الّتي كانت تتم فيها عملية التّحوّل الدّيموقراطي متجاوِزَةً فيها خطوات التّربية الدّيموقراطية بسبب ظرفٍ طارئ ؛ كالرّبيع العربي الّذي هبّت رياحه بالمنطقة فبعثرت أوراقها منذ قُرابة عقد من الزّمن , والّذي نجحت فيه بعض الشّعوب العربية في تغيير أنظمة الحكم لديها , وخاضت عملية التّغيير بنجاح , لكن اتضح أن الخلل والتّشوه كان واضحاً وفاضحاً لدى الشّعب والنّخب السياسية وانعكس ذلك على مجريات الواقع.
فقد أدى عدم النّضوج الديموقراطي للشّعوب إلى نتائج كارثية على جميع الأصعدة وذلك بسبب قلّة وعي وخبرة النّاخبين على صعيد مستوى اختيار المرشّحين الّذين سيستلمون دفّة القيادة ومن ذلك الوقوع في فخ السّياسيين الّلاعبين على الأوتار الدّينية الرّنانة ؛ وذلك لكسب أصوات النّاخبين عبر العاطفة الجيّاشة أو لتحقيق مآربهم الخاصة , أو ومن جهة أخرى حتى على مستوى برامج المرشّحين ومدى قدرتهم على تحمّل المسؤولية وواقعية برامجهم ومشروعهم.
أضف إلى ذلك موضوع الاختلاف الأيديولوجي والطّائفي , والوحدة الوطنية , فكلّ تلك الأمور لعبت دوراً مهماً في رسم النّتائج , والّتي أدّت بطبيعة الحال إلى انقلاب سياسي في بعض الدّول وتلاعبٍ بالدّستور انهارت معه المؤسسات الّتي تحمي الحياة الديموقراطية أو تقلّصت صلاحياتها , وقد تمّ ذلك دون ردّة الفعل المأمولة من جانب الشّعب للحفاظ عليها فيما لو قارنا ذلك مع ردّة فعل الشّعب التّركي والبوليفي في دفاعهم عن حريتهم وحقوقهم عندما وقعوا في نفس الظّرف , وفي حين شهد بعض الدّول عودة مقاليد الحكم إلى العسكر , وآخرون تمسّكوا بالدّعم الخارجي الّذي ساهم في إشعال فتيل الحرب الأهلية بشكلها الطّائفي القذر , وسلّموا له مكافأةً له على فعلته مقدّرات بلادهم وثرواتها طواعية.
لذا فإن الخطوات الأولى الّتي يجب اتّخاذها لحلحلة وإصلاح مكامن الخلل الّتي ظهرت في التّجربة الدّيموقراطية العربية , ستكون عن طريق إصلاح وعلاج الشّعب , فالشّعب هو أساس العملية الدّيموقراطية , ومنه تولد النّخب السياسية , ومع هيجانه تثور البلاد وتضطرب , ومع رخاءه ورُقيه تسمو البلاد وترتفع , وبناءً على توجهاته واختياراته تتم عملية اختيار الزّمرة الحاكمة المخوّلة بإدارة شؤون البلاد وتدبّر أمرها.
-
يزن أبو زيديزن أبو زيد ، أردني الجنسية ذو أصل فلسطيني ، الفتى اليانع صاحب التّسعة عشر ربيعاً ، حالياً أقطُن في العاصمة الأردنية عمّان ، طالبٌ في كلّية الطب ، أما عن قلمي فهو كالمِغزَل أحيكُ به كَنزة تعكس ما بداخلي من اضطراب.