إنتحار فني 3 - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إنتحار فني 3

  نشر في 01 غشت 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

لم تكن زيارة تلك البريطانية في محلها ، ولكنها استطاعت أن تغير ترتيب الكثير من الأشياء برأسي .

بشكل من الأشكال ارغمتني على تسليط الضوء مجددا على الجزء الإيجابي مني

أنظر إلى حالي مجددا ، أبحر للداخل و اغوص بأعماق روحي و أبتعد أكثر

أفتش عن شيء لا أدري كيف هو ، لونه، شكله ،طعمه ..

كل ما اعرفه عنه، أن الجميع يدعونه بإسم السعادة .

قالوا انه شيء جميل موجود بداخل كل شخص فينا ، و نصحوني بعدم اضاعة الوقت في البحث عنه بالخارج .

بالنسبة لي ،لم يكن مهما إن كانت السعادة بالداخل أو بالخارج.

لقد كنت أرى ان الأصعب هو معرفة الشيء الذي تكمن فيه سعادتك ، الشيء الذي يغير الوان الحياة بعينيك ، و يزهر بداخل روحك المقفرة فيعيد لها الحياة من جديد.

ما السبيل إلى كل هذا ،و هل نجاح معارضي الفنية سيجمعني على طاولة واحدة بالسعادة ..؟

لا أدري حقا..

هل النجاح هو السعادة ، أم ان هناك من بلغوا النجاح و لم يبلغوا السعادة .؟

تبقى السعادة أمرا نسبيا ، و إحساسا مؤقتا يشبه العطر كثيرا ،يزول بسرعة و لا يدوم إلى الأبد .

في السابق كانت تخيفني رحلات الإبحار تلك كثيرا ..

أما اليوم فلا شيء صار كذلك .

أسألني :يا ترى ما الذي غيرني إلى هذا الحد ، لماذا قررت الإنتحار فجأة .؟

أي قرار متسرع هذا الذي أخذته ، و أنا الذي وقفت في وجه الأيام ، تخليت عن كل شيء ،و تركت الوطن مسافرا إلى أوطان أخرى ،حاملا كل الأثقال فوق كاهلي متناس كل ما حصل ، مواصلا طريقي لأجل بلوغ شيء أحمله بقلبي .

كيف سأبلغ الحلم ان لم أكن على قيد الحياة

ام ان هناك من سيمنحني فرصة ثانية بالمقبرة .

لم يكن معرضي الأول الذي فشلت فيه ، كان واحدا من بين الكثير من المعارض التي عدت بها منهارا أحمل بوجهي ملامح الهزيمة .

خسرت الكثير من أموالي على معارض فاشلة ، و فن لم أستطع حمل رسالته ، لم أكن قادرا على فك شيفرات النجاح به

ربما لم يكن لوحده الفشل في الفن دافعي للإقدام على تلك الحركة الغير مسؤولة

هي تراكمات من الماضي ترافقني و تسير في خط موازي لواقعي البائس .

أحس أني وحيد جدا ، لا جدار أسند عليه ظهري ، لا وطن يفرش لي أرضه لأستلقي ،لا عائلة تعانق الطفل المنكسر بداخلي و ترقع بسؤال بسيط عن حاله جراحا تغزو قلبه و تملأ الذاكرة

اواجه كل شيء لوحدي هنا .

لوحدي أحاول أن أكون لنفسي الجميع .

أتعرف ما هو أصعب شيء

أن نأخذ أدوار لا نجيد تقمصها

لم انجح في التمثيل يوما ، ولو نجحت لما كنت سأرمي بنفسي من ذلك العلو ، لأجل عالم أحمق يعاني قصر النظر و مجتمع جاهل يدعي المعرفة

لقد كان الفشل يصاحبني في كل خطوة أخطوها .

كان من الصعب لمغترب أن يكسر الترتيب بهذه المدينة التي يمارس فيها الفن بكل شيء ، أن يتصدر القائمة بين فنانيين إيطاليين موهوبين .

لا أدري أين كان الخلل ، لم تكن الفكرة و لا الموهبة ما ينقصني ..

ربما لم تكن بساطة تلك الرسومات المستوحات من مدينة الطوب التي ولدت بها القدرة على الوقوف أمام لوحات الموج و الجمال لهته المدينة الساحرة .

و انت تجوب شوارع إيطاليا ، ستلاحظ الفن بكل مكان ، بنايات ملونة و جسور ساحرة و قوارب خشبية حمراء تكمل رونق اللوحة و تمنحها بعدا مميزا .

بطريقة ما ستحس أن الجميع يمارس الفن هنا ، ستلمح الجمال في كل شيء تلمسه نظراتك .

حاولت كثيرا أن اتأقلم مع الوضع ، ان ارسم إيطاليا الجميلة ، ان أفتح لها الابواب بلوحاتي،أن أغير بعض الشيء أن اتلاعب بالذكرى ،دون جدوى ، كان الحزن و الطوب و الفقدان و الخذلان و بقايا من سواد ايام غابرة يرافق جل لوحاتي .

لم أحظى بذكريات سعيدة ، و حين قلت أن تلك الجميلة ستعوضني عن كل شيء ، فعلتها و غادرت لتنهي سلسلة المآسي، بمأساة أشد .

يرن هاتفي قاطعا علي كل شيء

انسحبت من الشرفة ،بخطوات متثاقلة دخلت غرفة المعيشة ، حملت هاتفي من فوق الطاولة أتفحص اسم المتصل

فاليريو ، لم يكن مزاجي يسمح بالتحدث إلى أحد ، و لكنه فاليريو ..

ذلك الشاب الإيطالي الطيب الذي لا يمكنني أن أرد له طلبا ، هو الصديق و الأخ و العائلة ، لقد كان فاليريو بطريقة ما سببا في وصولي الى ما أنا عليه اليوم ، لقد وقف بجانبي و ساندني في أشد اللحظات يأسا

قبل أن أنحرف عن الطريق وجدته أمامي مرشدا بهته المدينة التي كنت غريبا بها و مازال إحساس الغريب يسكنني و يلوح أمامي بأوشحته الداكنة كلما ابتلعت حبوب التناسي .

كان فاليريو يدرس الطب بجامعة كامبريدج بمدينة ميلان و كان والده ألفريدو ديلفا فنانا كبيرا يحظى بشهرة واسعة بايطاليا و معظم دول اوروبا .

لقد كان رساما فذا و عبقريا يمزج بين اقدم اللوحات في رسومات ساخرة تجبرك على إشعال الشموع بعقلك ، تستفزك و تحرك فيك ذلك الدافع و الحماس للبحث و طرح الكثير من التساؤلات .

كان والد فاليريو يقدم دروسا بمعهد الرسم الذي التحقت به رفقة بعض الشباب .

كنا نحس أننا من القليلين ، و المحظوظين الذين أنصفتهم الحياة ،فقد كنا ندرس الرسم عند أحد أشهر الفنانيين بإيطاليا ،و ربما هذا لوحده كان كافيا لتشجيعنا على المضي قدما

كان فاليريو مولعا بالرسم و الفن منذ طفولته ، يشبه والده ألفريدو في كل شيء ، إلا أن والدته رفضت فكرة ان يكون إبنها رساما ، و طلبت منه و ألحت عليه بأن يلتحق بمقاعد الطب بحجة أنها أدرى بكل ما يخص مجال الطب ،فقد كانت تعمل طبيبة أسنان بالمستشفى الحكومي قبل أن تفتح عيادتها الخاصة .

لظروف ما واصل فاليريو دراسته بجامعة الطب و تخلى عن فكرة الالتحاق بمعاهد الفن ، و لكنه بقي يرافق والده بكل المعارض و يحضر ملتقيات الفن اينما كانت ، بالاضافة الى محاولاته الدائمة لحضور دروس والده بمعهد الفنون كلما سنحت له الفرصة .

بالرغم من أن دراسة الطب كانت تستلزم منه بذل مجهود مضاعف و تخصيص وقت أكثر لدراسته ، و لكنه كان يحاول خلق وقت لأخذ دروس بالرسم و الاحتكاك المباشر بطلبة الفنون ، لتطوير قدراته و سقل موهبته

لقد كان يحب كل ما يتعلق بالفن .

كنت بذلك المعهد العربي الوحيد وسط طلبة إيطاليين و إسبانيين و حتى فرنسيين اتخذوا من ايطاليا وجهتهم المفضلة لدراسة الفن و التشبع بلوحات أشهر الفنانين على مر العصور ، مبدعون سخروا حياتهم للفن ، و صوروا لنا أروع اللوحات الفنية التي خلدها التاريخ ، أشخاص رائعون خلفوا وراءهم ثروات من الجمال لا تقدر بثمن .

كانت رسوماتي بعيدة عن المألوف والنمطية التي كانت تسود معظم لوحات الفنانيين الإيطاليين

كنت أحس في كل اللوحات التي كانت تمر امامي، ان كل فنان إيطالي يحيط نفسه ضمن إطار وهمي لا يتجاوز هته المدينة ، ألمح كل ذلك في معظم الرسومات ، رسومات جميلة مستوحات من سحر الغروب و الشروق المنسدل فوق الامواج و البنايات العائمة ، كان الجميع يبالغ في استخدام الألوان البراقة ، و يعكس إغراءات و مفاتن هته الانثى في لوحات بديعة .

إنها إيطاليا حورية الجمال تجذبك من النظرة الأولى ، تتعلق بها و تفتن بحسنها من اول زيارة .

كم أحسدهم ...

لقد إستطاعت أوطانهم ان ترسم بقلوبهم و تصور بأعينهم مشهد الجمال و الدفء و الحب .

ياترى ماذا منحتنا اوطاننا و اي صورة يمكننا أن نتذكرها بها .

لقد كان الشقاء و الحزن يرافق لوحاتي دائما بين اللطخات كنت أكتب رسائلا مشفرة من المنفى فوق قماش ابيض و ارسلها إلى اوطان عربية لم تمنحنا شيئا سوى الجنسية ..

رسالة مغترب ، لم تثنه الغربة و لا الظروف الصعبة على مواصلة المشوار

لقد كنت سخيا بالألوان دائما ،أعتمد الأبيض و الأسود بجل لوحاتي ، واترك بقية الالوان لأيام تناسبها .

وهذا ما جعل الأستاذ ألفريدو يعجب بلوحاتي و طريقتي المتفردة في الرسم .

كان يشجعني طوال الوقت و يساعدني لأطور من قدراتي و أنمي موهبتي .

دعاني في العديد من المرات لحضور معارضه التي كان يقيمها بروما و فلورينسا و الكثير من المدن الإيطالية .

تعرفت على فاليريو ذات يوم بمعرض والده الأخير ،حين ألقى كلمة إفتتاحية قدم فيها إبنه أمام الحضور و شكره قائلا عنه أنه كان و مازال مصدر إلهامه و أبداعه ، و أنه أقام هذا المعرض على شرفه .

كم كنت أحسده بتلك اللحظة ،كان من الصعب أن أحظى بوالد يشبه ألفريدو ، في إهتمامه و إحساسه العالي الذي يكنه لإبنه ، في حنوه ، في حبه في عطائه ووقوفه كالسند في ظهر إبنه .

كان فاليريو يحظى بعائلة ، لم أحظى بها طوال حياتي ،عائلة تمده بالرعاية و الحب و العطف.

عكسي تماما .

كلها أشياء رحلت مع رحيلهم المبكر 

كنت في العاشرة حين فقدت عائلتي .

يتبع...

#موساوي عبد الغني ♤


  • 3

  • Abdelghani moussaoui
    أنا الذي لم يتعلم بعد الوقوف مجددا، واقع في خيبتي
   نشر في 01 غشت 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

Fatma Alnoaimi منذ 3 سنة
ومازالت سلسلة الجمال متواصلة..
تحية ود لك ولحرفك الأنيق.
1
Abdelghani moussaoui
ستتواصل سلسلة الجمال ، بوجود أمثالك بالطبع ..
كل الشكر لحضرتك ..تحياتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا