هل فكرت يوما في تخمين ماذا تخبئ أوجه الأشخاص في المواصلات العامة ؟ هل فكرت يوما في إن وراء كل وجه منهم حكاية قد تكون أكثر تشويقاً من سيناريوهات الأفلام التي ندفع الكثير لمشاهدتها والاستمتاع بها ؟ هل فكرت يوما في ترك هاتفك وتأمل وجوههم التي قد تحمل ألف قصة وحكاية قد لا تتوقعها ولم تخطر على بالك قط ؟
الحقيقة إني مثل الكثيرين من الفئة الأكبر من الشعب أضطر للاستعانة بالمواصلات العامة ربما أكثر من ثلاث او أربع مرات يومياً وأمضى بها ساعات طويلة والحقيقة إني مثلهم أيضا أكره ركوبها وأظل أتأفف منذ بداية الرحلة وربما طوال الطريق من كل شيء حتى يعلن السائق انتهائها ووصولنا إلى المكان المنشود , كنت لأخفف على نفسى طول الطريق وصعوبته أحمل معي دائما في حقيبتي كتاب جديد ممتع واراعى أن تكون عدد صفحاته كثيرة حتى لا ينتهى سريعاً ، ابدأ بقراءته منذ بداية الرحلة حتى نهاياتها ولا أرفع عيني أبدا عنه حتى لا اضطر إلى النظر للجالسين ولا التحدث معهم وعندما ينتهى أبدله بأخر اكثر تشويقاً وأكثر عدد صفحات بالطبع وحتى تكتمل الصورة اضع سماعات هاتفي المحمول في ادني ولا اخلعها ابدا مهما كانت الظروف وأراعى أيضا أن أرفع الصوت لأعلى درجة حتى أنعزل عن العالم بأسره ولا اشعر بأي شيء قد يدور حولي .
أستمر هذا الوضع حتى نسيت سماعاتي في يوما ما ووجدت إني قد نسيت أيضا تبديل كتابي الذى انتهيت من قراءته بواحد جديد دون أن أدرى أو أتذكر بالتأكيد شعرت بالحزن الشديد والأسى وان اليوم سيزداد سوءا فكيف لي أن اتحمل ساعات من العناء بدون أسلحتي التي كانت تعينني على تحملها .. الامر لن يكون جيدا هذا ما أعرفه واتوقع حدوثة .
في البداية الامر كان كما توقعت بالضبط ولكن ربما بنسبة أقل ملل ، ضوضاء ، أحاديث جانبية ، نظرات بعضها مريب والأخر يحمل ورائه شيئا لا اعرفه كل ذلك يحدث في أن واحد حتى بدأت اتقبل الامر شيئا فشيء حتى انقلبت الآية كما يقولون ففي الوقت الذى كنت افكر في كيف سيمضى يومي بدون أشيائي السحرية ومتى ينتهى كل هذا وأعود لمنزلي أصبحت أتمنى أن يطيل الطريق ولا أصل ابدا .
بدأت انظر حولي واتأمل الجالسين واحاول أن افكر فيما يخبئون خلف تلك النظرات والتعبيرات المرسومة على وجوههم , احدق وأحدق على أمل الفهم وتخمين حكاياتهم .
فهذا الكهل الجالس في الخلف ببشرته السمراء المميزة التي يبدو عليها الاجهاد والشقاء الذى يبدو انه عانى منه الكثير والشيب الذى يغزو شعره ، يجلس ساكنا لا يتحدث مع أحد ولا ينطق ببنس كلمه ربما يفكر في المتبقي من حياته الذى يعلم جيدا انه لن يكون بقدر ما انتهى ويستعيد شريط حياته ، يتذكر أبنائه الذى يتفقدهم كثيرا ويتمنى رؤيتهم واراحه عيناه بابتسامه أحفاده ولكنهم في الخارج ولن يعودوا قريبا مع الأسف ، احدق جيدا فأرى انه يشبه جدى رحمه الله كم افتقده فهو يحمل نفس ملامحه الهادئة الطيبة ودائما ما كانت ترتسم على وجهه ابتسامه جميلة مهما كان ما يمر به احبه بقدر ما أحب القراءة التي شجعني هو عليها فهو من كان يحضر لي القصص لأقرائها وانا صغيرة مازالت حتى الان احتفظ بأول قصه احضرها لي كانت قصه الدجاجة التي تبيض ذهبا التي علمت من خلالها معنى ان الطمع يقل ما جمع ينتهى من عمله ثم يعود ليمر علينا حاملا كل مره قصه جديده كنت انتظره بشغف واتطلع لمعرفه أي مغامرة سأعيش مع قصته تلك المرة .
و تلك الفتاه الخمرية التي يبدو عليها التوتر وأنها في طريقها الى شيء تخشاه ربما كانت ذاهبة للجنه امتحانها فهي تحمل في يدها أوراق يبدو انها خاصه بالمادة الممتحنة ، يبدو أيضا انها ليست سهلة فهي تقلب الورق في توتر تقرأ الصفحة الأولى بسرعه ثم تنتقل الى الثانية ثم تعود الى الأولى مره أخرى ربما قد نسيت مراجعه شيئا ما فيها ، يالله لكم تذكرني بنفسي فالطالما فعلت مثلها وقضيت رحلتي للامتحان في المراجعة والتوتر يسيطر على بالقدر الذى كنت اشعر ان هذا الكابوس لن ينتهى ولكنه انتهى مثل كل شيء أتمنى ان تنتهى منه هي أيضا .
بجانب تلك الفتاه هناك أخرى ربما هي اكبر منها ولكن ليس بكثير أحاول التخمين ، يبدو انها مرتبطة بشكل ما .. كلا هي مخطوبة فدبلتها تزين يدها اليمنى تتحدث على الهاتف بصوت منخفض يرتفع قليلا ثم ينخفض مره أخرى يبدو انهما ليسوا على وفاق او هناك خطب ما او مشكله يحاولان حلها ولكنهما لما يصلا لحل حتى الان هذا ما يبدو لي من وجهها العابس وتعبيرات يدها المتوترة كما انها تبدو على وشك البكاء ، اتعجب واقول لنفسي يالى من محظوظة فهذا ما كان ينقصني لأكره الارتباط اكثر واكثر .
وهناك الرجل الخمسيني الذى يجلس في الكرسي الأمامي يبدو انه حزين بسبب ما ربما هناك خطب ما في عمله او لديه ازمه ماليه تجعله يعيش حياه سيئة يخشى من خلالها الا يقدر على تلبيه احتياجات أبنائه او يمد يده للغير وهو لو تعلمون امر يبدو الموت بالنسبة له حلا اسهل وارحم ، لمحت في يده شيئان وضعهما في كيس واسند يداه عليهما لا استطيع تحديد ما هما ولكنه قرر الا يتركني اخمن كثيرا وأعطاني الاجابة سريعا عندما هم بالاتصال بابنته ليخبرها انه احضر لها المجلة واللعبة التي كانت تريدهما يبدو ان الامر راق لها لأنه ابتسم ابتسامه ازالت بعدها كل ملامح الحزن والخوف التي كانت تعترى وجه ، الأبوة لا تقدر بثمن فعلا .
وعلى يسار الرجل تجلس امرأه اربعينيه ممتلئة تتحدث على الهاتف مع سيده أخرى لتخبرها بكل مستجدات كل من تعرفهم بالتفصيل يبدو انهم كثيرون فهي لم تترك الهاتف من على اذنها منذ بداية الرحلة وحتى نهاياتها , لطالما كرهت هذا النوع من السيدات الفضوليات الاتي يحشرن انفهن المدبب هذا في حياه وشئون الاخرين ، أتمنى لو ينتهى شحن هاتفها الان لتتوقف عن الثرثرة الفضول .
اما على يمينه فهناك ولد صغير السن ربما لم يتجاوز العشرين من عمره يبدو انه على وشك الذهاب للعب الكره مع أصدقائه حيث يرتدى فانله رياضيه لاحد الفرق الشهيرة وشورت وحذاء رياضي ويحمل على كتفيه شنطة اخمن إن بها أدوات سيستخدمها في لعب الكره ، يبدو سعيدا ومتحمس بشده بالطبع لن تكون تلك نفس حالته اذا كان ذاهبا الى مدرسته او الى احد الدروس الخاصة سيبدو وجها اخر لن تحب رؤيته .
بالطبع لن انسى قائد تلك الرحلة فبدونه لن تكن هناك رحله من الأساس ولا ركاب ، رجل أربعيني او ربما اقل لا استطيع التخمين بدقه فوجهه من النوع الذى لا يبدو عليه سن معين ، يحمل وجها مألوفا من تلك الوجوه الذى تراها مره ولن تتذكرها ثانياُ او تظن انك رأيته مسبقا ولا تعرف أين ، يبدو انه ليس كسابقيه فهو يتعامل بطريقة راقيه مع ركابه ، يسير بسرعه مناسبة ولا يضايق أيا منهم كما انه يستمع الى أغاني قديمة من الزمن الجميل وليست من تلك التي يستمع اليها الاغلب تلك الأيام التي لا تستطيع تمييز كلماتها وكل ما تسمعه هو ضوضاء عالية ومزعجه للاذن ، افكر في ان هذا بما لم يكن مجال عمله فشكله يوحى بأنه ربما يحمل شهاده عالية ربما اجبرته الظروف وقله فرص العمل على الرضوخ للأمر الواقع وقبول أي وظيفه متاحه امامه حتى لو كانت بعيده كل البعد عن مؤهله ومجاله ، اجد نفسى ادعو له ان يوفقه الله ويجد ذاته في يوم ما .
وهكذا الحال كل يوم أضطر لأستخدام المواصلات العامة ، لم اعد أحمل ما كنت احمله سابقا فقط أستمتع بما يدور حولي احدق وافكر واخمن فما قد يختبئ خلف وجوههم المختلفة التعبيرات التي قد تحمل قصصا قد تتفوق على ما تقرأه من كتب او تشاهده من أفلام وهى أيضا حقيقية وليست من خيال المؤلف ، اعتقد انى مدينه لهؤلاء ليس فقط لتسلية طريقي و جعلى استمتع به دون ملل أو كلل ولكن لتنشيطهم خيالي وزياده قدرتي على الابداع ، فهم بالنسبة لي اصبحوا الملهم الذى ينير طريق الكتابة لي ، دائما عندما لا اجد أفكارا تصلح للكتابة اتجه لهؤلاء فاجد عندهم الف قصه وقصه تتفوق كل منهما على نظيرتها الأخرى ..
-
سلمى آدمصحفية , أعشق السينما والموسيقى والكتب الجيدة .. أحب المناقشات المثمرة وأتقبل جميع الاراء بصدر رحب . قلمى سيفي وعقلى سلاحي ..