الوجه الآخر لليل... - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الوجه الآخر لليل...

  نشر في 06 غشت 2023 .

في طفولتي كنت أكره الليل، فلا أستطيع النوم إلا عندما تصحبني أختي أو أمي إلى السرير وتقصّ علي أي شيء حتى أنام، أو تترك لي نور الغرفة مُضاءً مع أن الباب مفتوحاً أصلا، وضوء الصالة ذاته منعكسا على جدران الغرفة، حتى صوت التلفاز كان يصلني، ومع كل ذلك كنت أخشى الليل والظلام، كبرت قليلاً وتركني رهاب الليل من تلقاء نفسه، وأنا قد نسيته كأنه لم يكن.

وبعد سنوات، وفي فترة ما من حياتي، عاد الليل ليرعبني من جديد، لكن في وجه آخر أكثر رعبا وإلتواء، حيث كان يتلبس عدة أدوار في وقت واحد كما ممثل المونودراما. تارة يؤنسني ويطمأنني، تارة ينقلب علي كأنني ألد أعدائه، وتارة أخرى يصرخ في وجهي محاولا إقناعي بإنهاء حياتي، فأنا - كما يزعم - أكبر من تلك المهزلة العبثية التي تمر بي، وهكذا شاء لليل أن يكون شاهدا حيا على أكثر مراحل حياتي قتامة.

ترهات كثيرة كان يضخها في نفسي رغم امتلائها وضجتها المسبقتين، ودفاعي الوحيد وقتذاك كان البكاء في صمت كيلا أيقظ أحد، وهكذا أبقى كالطرف المجبَّر حتى أسمع أول شقشقة للعصافير، فأعرف أن الصباح قد طل أخيراً، فأنام وتنتهي مسرحيتي اليومية.

من العجب حقا بعد كل ذلك أن أقع في عشق الليل، وهذه المفارقة لا أجد من الكلمات ما يسعفني على تحليلها، وكأنها شيء خارج نطاق الأرض والبشر! حيث ما زلت أُساءل نفسي: كيف بعد إذعاني القسري لجنائز الليل اليومية، يتحول فجأة لعُقداً لؤلؤيا يُنير لي كل ما تغفل عنه عيني أثناء النهار؟!

لا يهم أن أعرف، فأشياء كهذه تستمد روعتها وجمالها من سرها المكنون. والليل بالفعل صار من أسرار حياتي، فهو وقت خلوتي والتي تشعرني بدورها بكينونتي. أتأمل وأسترخي، أسمع الموسيقى التي أحب أو أقرا وأكتب، حسبما تأخذني أمواجه، وكل ذلك أمارسه أحياناً أثناء النهار، لكن في الليل يكون مذاقه مختلفا، ذا نكهة أصيلة ولاذعة لا يمكن وصفها حتى صرنا كائنا واحدا!

أستحضره بسهولة كلما اشتقتُ لهدوئه وعزلته، وأدعه يحول نهاري لليلٍ لا متناهي، تاركة له دفة خياراتي وقراراتي وحتى أقدار شخصيات كتاباتي، لكن بعد كل هذا الانصهار، عاد من جديد لضلاله القديم معي، عاد إلى وجهه الأول المراوغ الخبيث، قاذفا في وجهي أحزاني وحسراتي البائدة - التي حسبتُ أنني تحررت منهم - حتى الأشباح الليلية التي كانت تنسجها مخيلتي قديما لم يسلمني منها.

سألته - وقتذاك - في لحظة مشحونة بالغضب والحزن.. ما الذي تنوي جَنيه من كل ذلك التذبذب؟ لم يجب، وصفعني بعدها هواء بارد اقشعر له جسدي، وناحت معه نفسي. أهذه تكون إجابته؟

كانت نفسي متشظية إلى رفات، كل جزء يسكن في زاوية لا أعرف مكمنها من نفسي، والالتفات يمنة ويسرة بحثا عنهم لم يجدي.

ثمة شيء عظيم مفقود - وقطعا هو المفتاح لتلك الأجزاء الضائعة - إنها أنا.. نفسي، كنت أبحث بنفسي عن نفسي؛ يا لها من معضلة ويا له من ليل رقيق وشفاف، قد كشف عن هشاشتي بينما أنا أندد بتقلب وجهه معي!

هل تدركون شيئا من كل ذلك؟ حذار من الانتساب لشيء والتغزل فيه دون أن تعرفون شيئا عن وجهه الآخر.

23/6/2022

3:00AM



   نشر في 06 غشت 2023 .

التعليقات

رسل المعموري منذ 3 أسبوع
جميل جدا
1
Walaa Atallah
شكرا 🌸

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا