ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم ، هذا ما قاله أبو عمارة الحسين بن منصور الحلاج أمام منصة الإعدام التي أعدها الخليفة العباسي المقتدر بالله ، بمشورة القضاة وبفتوة من شيوخ الإسلام فأعدم الحلاج بأبشع الطرق فجلد حتى دمي فقطعت مفاصله وفصل جسده عن رأسه فعلقت على جسر بغداد ، ليكون عبرة لأولي الأبصار، فتلوع الناس وتروعوا لما أصاب شيخهم المبجل ، ليصبح امره حديث كل متحدث وعبرة لكل معتبر ، فانقسمت بغداد الى طائفتين ، طائفة كفرت وزندقت الحلاج وأخرى أمنت به ،ولكن لم تأيد تلك الطائفة المؤمنة ،أين طوردت و اضطهدت من طرف الحسن بن الفرات وزير المقتدر ، اعدم الحلاج فكان شهيد وصليب العشق الإلهي، وترك وراءه كتبا وأشعار في العشق مالم يصل اليه أي عاشق ولهان، ومجنون، فبلغ ذروة العشق واطفأت تلك الشعلة المتقدة بالموت ،إذ قدم حياته قربا لهذا العشق اذ يقول :
فكيف أصنع بحب كلفت به مولاي قد مل من سقمي أطبائي
قالو تدوى به منه فقلت لهم يا قومي هل يتداوى الداء بالداء
حبي لمولاي اضناني وأسقمني فكيف أشكو لمولاي مولائي
عرف الحلاج بتصوفه الذي لا نضير له، فتمرد على شيخه الجنيد الذي ألبسه الخرقة الصوفية ، فارتقى وعرج في مراتب التصوف وهودي التعرف ، من توبة وصبر وتقوى وزهد إلى ولوج وانحلال، في ذات الله التي يعتقد بها المتصوفة ،فتصو ف الحلاج كما عرفه في كلامه هو طوامس وروامس اللاهوتية ، أي تستهلك في حقائق الحق فتجعل قلبك وجوارحك دائمة الصلة بالله وفقط ،بلا انقطاع فتختلي به وتنقطع عن كل شيء اسمه دنيا ويحتوي على معنها ، فتقلل من نومك وتخشوشن وتزهد في كل الأمور ، فالحلاج رمز من رموز العشق ، عن ومن الابيات التي أوردها عن العشق قوله
يا نسيم الروح قولي للرشاد لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا ان يشا يمشي على خدي مشا
روحه روحي وروحي روحه ان يشا شئت وان شئت يشا
كما قال أيضا:
والله ما طلعت شمس ولا غربت الا وحبك مقرون بأنفاسي
وقال : .
عجبت منك ومني يا منية المتمني
ادنيتني منك حتى ظننت انك أني
وغبت في الوجود حتى أفنيتك بك عني
يا نعمتي في حياتي وراحتي بعد دفني
مالي بغيرك انس من حيث خوفي وأمني ا
وهذه أعلى مراتب العشق أن تفنى في المحبوب ،فلا تستطيع الصبر على فراقه ثانية من الثواني فالحلاج رغم حبه المبالغ فيه ،الا انه يعلمنا ويخبرنا عن مراتب الحب ، اذا انه يبدأ بالإعجاب ،وهو ابداء العجب تجاه المحبوب قبل الحب ، فبعد إتمام هذه المرحلة ،تنتقل الى الحب فتحب محبوبك فتحرص حرصا دائما من الدنو والاقتراب منه ، فتكون مرتاح لذلك الدنو، ثم يأتي التمني ، فتجعل كل أمانك تصب في بحر تمني المحبوب ، فتكون كل أزا فاتك وكل انفاسك فدائما للمحبوب ،فبعد إتمام كل هذه المراتب تأتي تلك المرحلة التي ربما تدخلك الى عالم الهوس والمرض ، وهي العشق فلا ترى الا المحبوب ولا تشم الا ريحه ،وهذا ما قله يعقوب النبي " إني لأجد ريح يوسف لولا ان تفندون "يوسف(94) ،فذلك العشق جعله يشم ريح عشيقه وولده يوسف على بعد أميال ، و بعد أتمام مرتبة العشق ، تأتي مرتبة الفناء والحلول وهي مرتبة عظيمة قد تؤدي إلا الجنون لا محال ، ففناء وحلول الحبيب في محبوبه هو التسليم والخضوع للمحبوب فحياتك ومماتك كلها من أجل المحبوب
فهذه مراتب الحب عند الحلاج أدنها الإعجاب، و أعلاها الفناء والحلول ، وإذا كان ذلك الحب مستحيلا أي محبوب الحبيب لا يرتقي في مراق الحب يورث المرض والجنون في الحبيب .
إن ديوان الحلاج الذي جمعه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون موروث ادبي جليل ، ولكنه له أبعاد وزويا نظر مختلفة، فبالمنظور الديني ، الحلاج زنديق لا ينبغي أن يدرس ويستند بكلامه فيدخل في دائرة ما نسميه بالأدب المهمش ، لهذا لم نعرف للحلاج أي خبر، الا ان جاء لويس الذي درس أدبه فجمع ديوانه .
الادب الصوفي رغم دخوله في انحرافات ، من حلول وفناء إلا انه أدب عالمي ، أدى دوره تجاه البشرية ، فهو بغض النظر يدعو إلا الإتيان بالأخلاق الفاضلة والتحلي بها ، ويهتم بعلم التزكية بعمومها ،هذا من ناحية ، أما من ناحية أخرى فهو إرث أدبي زاخر بألفاظ فصيحة وعميقة ، وحافظ للغة مالها ولم يبعدها عن جذورها .
ويبقى الحلاج رمز من رموز العشق ، يتغنى بقصائده العشاق ، فقصائده تعبر تعبير دقيقا عن حال العاشق تجاه المعشوق ،فهي تصف عشق العاشق للمعشوق بتعبير لم يعرف من قبل ولا أعتقد أنه سيعرف وكان من جملة ما يقول عن الحب والعشق :
العشق نار نور أول نار، وكالأزل يتلون بكل لون ويبدو بكل صفة يلتهب بذاته وتتشعشع صفاته بصفاته يجوز الأجواز من الأزل الآباد ينبوعه من الهوية منعرس عن الأنية باطنه ظاهر ذاته حقيقة الوجود وظاهره باطن صفاته الصورة الكاملة بالاستتار المنبئ عن الكلية بالكمال
-
Mouloud kasmiطالب جامعي متخصص في الاعلام الالي ومولع بالادب العالمي