المونديال، واشكالية الصدام الثقافي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المونديال، واشكالية الصدام الثقافي

قراءة في المشهد الاكبر للمونديال

  نشر في 16 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 08 فبراير 2023 .

المونديال، واشكالية الصدام الثقافي

د. نبيل العذاري – مجلس الفكر العربي .nethari@msn.com

لا شئ يضاهي المونديال بين كل المسابقات الدولية من ناحية التشويق وروح المنافسة الوطنية والقومية. وحتى الاولمبياد الاكثر ثراءاً في التمثيل الدولي وعدد الالعاب وعدد اللاعبين فهو لا يكاد ان يرقى الى شعبية وسخونة احداث المونديال.

ففي كل مرة ينظم فيها المونديال يحتفل العالم مبتهجا به كحدث كروي استثنائي يرفع وتيرة دقات ملايين (بل ربما مليارات) القلوب المتحمسة في ارجاء المعمورة، كما يرفع حدة الجدل بين الناس حول جدوى المليارات التي تنفقها الدول استعدادا له، وما اذا كان من الاجدى انفاقها في مشروعات التنمية واعمار البنى التحتية والتوظيف وما الى ذلك.

هذه المرة اتخذ الجدل طابعاً شديد الحدة وعالي النبرة، فقطر التي نظمت المونديال تنتمي الى امة تكثر فيها الدول الفقيرة او المسحوقة بينما تحتل هي صدارة العالم او المركز الثاني بعد المتصدر في معدل دخلها القومي لكل نسمة رغم ان هذا المقياس ليس واقعيا على الارض، وهي بلد صغير جدا جغرافيا وسكانياً، لكن قيادته طموحة جدا للعب ادوار عالية المخاطرة وذات طبيعة استراتيجية يتوانى عنها الكبار احيانا. كما ان لقطر هذه الكثير من الاعداء والقليل من الاصدقاء او الحلفاء المتضامنين على مضض. ودورها في المسرح السياسي الاسلامي اكبر بكثير من حجم الدولة او حجم جيشها او مساحة بناية قناة الجزيرة، سلاحها الاعلامي الذي يقترب من عمر الثلاثين عاما.

يدور الجدل هذه المرة في محورين، الاول تتبناه الدول الغربية حول ما تعتمده دولة قطر من تشريعات وتطبيقات في مجالات حقوق الانسان، حقوق العاملين، حقوق المثليين، وحقوق المرأة والقضايا الجندرية الاخرى. اما المحور الثاني فهو في النطاق العربي والاسلامي، ويركز على ان الدولة الغنية بالغاز والتي تمتلك احتياطي ثروات هائل منه كان الاجدر بها ان تستثمر اموالها "المهدورة" في اغاثة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلداناً كسرتها الضائقة الاقتصادية كلبنان واليمن والصومال.

في المحور الاول يبدو ان قطر مثلت كبش الفداء الذي تجسدت في استهدافه الشرس ملامح الصدام المفاهيمي والثقافي بين الشرق والغرب، ذلك الصدام الذي كان يبحث عن مناسبة ليتجلى واضحا، فكان المونديال مناسبته الاكثر جلاءا. وربما اعتقد البعض ان قطر قد اتهمت وحوكمت وادينت من قبل الغرب لكونها دولة عربية او دولة مسلمة او بسبب دورها الجيوبوليتيكي وتوجهات قيادتها فحسب، الا ان الحقيقة ربما تتجاوز ذلك، ففي قضايا حقوق المرأة وحقوق العاملين فإن قطر قد بذلت جل ما في وسعها لتضيق الفجوة بين التشريعات القطرية التي كانت نافذة عندما فازت قطر بحق تنظيم المونديال قبل اثني عشر عاما وبين النماذج التي تتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي في هذا المجال، ورغم ذلك؛ لم يكن بإمكان قطر تغيير كل شئ لان ذلك يرتبط بمنظومات التشريعات الاكبر التي تعتمدها الدولة بضمنها قضايا الهجرة واعتبارات التوازن الديموغرافي، مثلما يرتبط بالجذور الثقافية الراسخة في المنطقة منذ قرون.

وبامعان النظر في المشهد العالمي ككل فان قطر ليست استثناءاً اذا ما تعلق الامر بقضايا مثل حقوق العاملين وحقوق المثليين، ففي مروحة جغرافية وسكانية عريضة تشمل معظم القارة الاسيوية وافريقيا وامريكا الجنوبية لا توجد فروقات جوهرية في مضامين التشريعات النافذة او في السلوك الاجتماعي العام تجاه هذه القضايا عن النموذج القطري، الا ان من الواضح ان الغرب قد اثبت في هذه التجربة انه عازم على فرض "قيمه" حتى وان كانت تلك القيم محل جدل في الغرب نفسه او يعجز هو عن الالتزام الواقعي بتطبيقها.

ان فكرة ان الغرب يرى نفسه هو الحَكَم والنموذج الاخلاقي الأسمى الذي ينبغي على دول العالم تقليده او الاحتكام اليه فكرة سمجة ومتعالية للغاية. والتيار الفكري الحاكم في الغرب يُجَرِّم كل ما يخالفه في التصور، حتى وان عجز عن تقديم مبررات منطقية لتوجهاته. ورغم ان ما هو اخلاقي ام سوى ذلك امر جدلي عبر العصور ويختلف باختلاف الثقافات، الا ان الواقع يظهر ان التيارات الغربية النافذة غير مستعدة لاظهار اية مرونة مع من يختلف معها.

اننا لا نشكك هنا في الاهمية القصوى لقضايا حقوق المرأة وحقوق العاملين وحتمية عدم ايذاء المختلفين جنسياً، بل نحن تماماً مع ذلك دون ريب. لكن التهريج المقصود الذي مورس قبل وخلال وبعد مونديال قطر يجيز لنا اعادة طرح الاسئلة الكبيرة وبموضوعية عالية، وفي مقدمة تلك الاسئلة هو "ما الذي يريده الغرب منا بالضبط؟"، و"هل هنالك من قيمة لأن نكون حلفاء او اصدقاء للعالم الغربي؟"، و"هل يمكن للغرب ان ينظر بموضوعية واحترام لثقافتنا وقيمنا واختلافاتنا الفكرية القديمة يوما ما؟".

قطر حاولت بجد ان تكسر جدار العزل السميك الذي يفصل الثقافتين، وان تظهر جمال قيمنا وتناسقها مع الفسيفساء العالمية، وان تسخر الثروة لتكون طرفا في معادلة التأثير والتوازنات عبر تنظيمها الناجح للمونديال. لكن المونديال نكأ كل الجروح القديمة واخبرنا بالحقيقة رغم ان بعضنا لم يكن يصدقها، وفي مقدمة ما اخبرنا به ان علينا ان لا نصدق ظواهر الامور، وان الآخر لا يرانا اصدقاءا حينما تحين ساعة الحقيقة. وبعد ان ننجز اصلاحاتنا المهمة والمطلوبة لتغيير منظومة تشريعاتنا المتقادمة، علينا ان لا نغفل ابدا ان مكانتنا تكمن في مدى احترامنا لذاتنا وثقتنا بالنفس وعدم ترددنا في خوض المهام الكبرى.

اما في المحور الثاني، محور الانتقادات التي وجهت الى حجم الانفاق الذي رافق تنظيم المونديال، وفي غياب بيانات رسمية تتعلق بما انفق تحديدا لتنظيم البطولة، فان الكثير من الاموال انفقت لتحسين وتطوير البنى الارتكازية في شبه الجزيرة، هذا على الاقل ما يبدو من البيانات المتيسرة. كما ان اولويات الانفاق عادة تشتق من الاهداف الاستراتيجية التي تسعى البلدان الى تحقيقها في المدى الطويل. ومن الواضح تماما ان المونديال جاء في اطار سعي قطر الى بلوغ اهدافها الكبرى من خلاله. انها تريد وبكل وضوح ان يحسب العالم حسابها مع اللاعبين ذوي الشأن في المسرح الدولي بصرف النظر عما استطاعت ان تحققه بالفعل من استضافتها للمونديال الباهض الثمن.

وخارج اطار المصالح القطرية التي يمكن لقادتها ان يحسبوها ويقيمون ما تحقق منها وما لم يتحقق، فقد لفت هذا المونديال انظار العرب الى انفسهم، شجعوا بعضهم البعض بجنون وبكوا من اجل اشقائهم، تجاوزوا شقاقهم وخلافاتهم القديمة وظهروا متآخين ولو الى حين، كما اظهر ان شباب العرب وكهولهم لم ينسوا قضاياهم المصيرية وان توهم البعض ذلك. 


  • 1

   نشر في 16 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 08 فبراير 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا