لماذا سينتصر الأنسان على دمه
نشر في 02 نونبر 2019 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
بعد مرور ذكرى الرابع عشر من أغسطس التي شهدت فيها مصر مجزرة رابعة العدوية و التي لا تختلف في نظر الإنسان السوي العاقل الرشيد عن مشاهد محمد محمود أو جمعة الغضب أو حتى حادثة ضباط الشرطة المقاومين ضد قوى الاستعمار في يوم الخامس و العشرين من يناير و الذي وُضع كعيد الشرطة تشريفاً و تكريماً لهم، أجد كثيراً من الخطب حول كيف اختلفت الحياة قبل و بعد هذا اليوم، و لا إعتراض لدي أن جميعاً لا ندري ما الرابط بين عام 2012 و عام 2014 من كثرة ما حدث في نهاية 2013 من اختلافات على كل الأصعدة و لكنني أوجه خطاباً مهماً إلى الذين يعتقدون أن الموت بالأعداد أولاً ، و إلى الذين يعتقدون أن الموت يغير الحقيقة أخراً ، و هو أن الإنتصار ينتصر حتى على الموت.
عزيزي القارئ إن كُنت في بلد أوروبي أو غربي و تحدثت مع بعض الذين يبذلون حياتهم دفاعاً عن انتمائات و قضايا لا ناقة لهم في سباقها و لا جمل ، ستجد أثار التجهم على وجوههم إثر سؤالك " لماذا تدافع عن هؤلاء " أينما كان انتماء هؤلاء المرصودين في سؤالك ، ذلك لأن من البديهية من بعض الصراع و التجارب التي خاضها الغرب و أوروبا خصيصاً أن ينضج أهله و يعلم أن ما يحدث لغيره إن مر مرور الكرام سيأتي إليه و يقبل كما قُبل الكرام من قبله، لذلك تجد المجتمع الغربي يدافع عن الحرية و يبغض الدم و حتى إن ظننت أنه يدعي ذلك لتجد أنه يحب أن يراه الناس يدعي ذلك.
أقل الإيمان و أغلى القليل أنك لن تجد من يقول للناس اقتل هؤلاء أو اعتقل هؤلاء ، أقصى الدعاوي لديهم هو دعاوي الإعلاميين بمحاسبة البعض أو التقصي في أمور البعض فقط لمعرفة إن كانوا مُذنبين أم لا، و ذلك يعود إلى التجربة و النضوج ، حتى و إن ظننت أن هذا البناء العام هو بناء كاذب و أن هؤلاء البشر يدعون حقوق الأنسان و كرامة المواطن.
أما الشق الأخر من حديثي هو حقيقة أننا اليوم قد نضجنا بعض الشيء من تجربتنا الأخيرة إلى درجة أننا تفهمنا أن لا حل في أن ننتخب أحدهم لأنه ذو خلق أو دين مثلما تعلمت أوروبا من حقيقة أن اليمين و الأفكار الأصولية ليست دائماً مخطئة أو دائماً صحيحة، و تعلمنا من تجربتنا الأخرى أن لا قيمة بالأرز و السكر و الزيت الذي نراه في الفترات الانتخابية ما دام بعد ذلك سيصبح قيمة تلك السلع قيمة الذهب و الثروات التي لن نطالها بمنظومتنا التي أتيت بتلك السلعة من الأساس.
تعلم الإنسان في البدء كيف يصطاد من الجوع، و تعلم كيف يشعل النار من البرد، و تعلم كيف يرتدي ملابسه من العري، أو رُبما أظن ذلك، و لكننا في تجربتنا العربية تعلمنا الاستقلال من الاستعمار ، و تعلمنا النظام من غيابه، و تعلمنا الحرية بما لم نراه في حياتنا، و لذلك كان ضرورياً أن نتعلم حُرمة الدماء من إراقتها، اليوم إن عادت الفصائل المختلفة من المجتمع العام في سوريا هل ستجد من بينهم قد يرفع مسدساً مرة أخرى ؟ بعد كل تلك البلدان التي ترفض لاجئهم، و بعد تلك السنوات العجاف، هل سترى في أحد الأيام إسلاميين يفكرون في السلاح مثل الماضي من بعد فض رابعة، إن من الغباء و التعنت الفكري أن تجد من يفكر في الدم من بعد تجاربنا معه، حقيقةً إن ما علمناه من تجاربنا الأخيرة تلك هو أن عادت الموائد كما كانت، سنتناول فيما بيننا عكس ما كُنا قد تناولنا ، ذلك لأننا قد نضجنا.
و إن لم تكن مصدقاً للذي أقوله لأن المستقبل غير واضح، و لربما ابنائي و ابناءك من يعلمون الفصل فيما بيننا في هذه النقاط، قل لي يا عزيزي المواطن ، أين اليوم القوات التي ستقصف كتالونيا التي تقاوم قوات فرانكو الجمهورية ، و أين يا عزيزي انصار تجارب الكوكايين في كولومبيا، و قل يا عزيزي مَن مِن بين الذين يعيشون في المانيا يفكر في الجنس الأرى و يبحث عن رد قيمة و اعتبار المانيا من بعد هزيمتها مرتين، و أي شخص في اليابان اليوم يود احتلال الصين و أن يغرقهم بشكل تام كضحايا في بحر الأوبئة و القنابل البيولوجية ، و كم مدينة في اليابان يترصدها الأمريكيون بالقنابل النووية ، إن التفكير في مثل تلك الأشياء اليوم فقط من أجل السخرية .
الحقيقة التي يجب أن اوصلها لك أن الفساد المحيط بنا اليوم و تدني الحال في العالم العربي و عدم استقرار حياة المواطن حقيقةً هي مرجعيته و ثقافته من العيش و خبراته المكتسبة من التعايش مع الوضع الحالي هي الوسيلة التي تعلمه دون اللجوء للقراءة و البحث و المقارنة بين نظام و أخر و أفكار و أخرى ، و لذلك يجب النظر اليوم لرابعة العدوية و الثورة السورية و محمد محمود و جمعة الغضب و حرب اليمن و أحداث ليبيا كحرب عالمية أخرى فقط في إقليمنا، و كما أحب عنونتها في أحاديثي مع الناس " الحرب المشرقية الساخنة و الحرب المشرقية الباردة " ، تلك التي جائت فقط لضياع انعدام الخبرة و الإندفاع و مبادئ التفكير البدني و الإعتقاد بالمقدرة على الأقليات و الفتنة و الغرور من العدد و التأييد.
سأقول لك ما أؤمن به في الختام و هو قول أتحدى به البشرية كافة ، بل سينتصر الإنسان بمعناه السامي ، الإنسان الذي يميل للصدق عن الكذب حتى و إن كان في الصدق هلاكه، بل لينتصر الإنسان الذي يرى أن الصحيح صحيح حتى و إن كان من الخطائين، بل و أن الصحيح ليقال كما هو صحيح حتى و إن كان من التناقض أن يقول الزاني أن ما يفعله هو الزنا أو أن يعترف القاتل بقتله ، ذلك لأن الذي لم يتعلم تلك القيم، و لم يرجع للعقل و المنطق و الأخلاق و تبدية الجماعة عن مصالحه الشخصية و قيمته الفردية، ليصنع ذلك من باب معرفة معنى الخراب و الهوان و الضعف و المذلة و الشقاء.
إن اليوم الذي ينظر إلى سوريا من الشعب السوري لن يفرق بين الأكراد و الشيعة و السُنة مثلما كان ينظر المجتمع في الماضي ، و اليوم في مصر ننظر لأحاديث و خُطب الماضي بنظرة " هل كان صحيحاً ؟ " ، و ذلك يعني أنه إن تكررت التجربة في المستقبل لن نكون ذلك الشعب مرة أخرى، ذلك لأننا مررنا بهذه الأيام.
و يبقى السؤال البسيط، هل بالفعل لا يوجد قيمة لدماء الذين ماتوا في البلدان العربية ؟ ، أقول لك يا عزيزي أن كريم الأخلاق من أصله لا يحتاج لخراب داره حتى يتعلم دروسه، أما نحن جهلاء جهل لم يصل إليه أحد، علمنا الأمور من ضياعها، فكان من الضرورة معرفة دروس اليوم و بلوغ خبراتنا الحالية بدماء هؤلاء ، و موتهم هو جزء بسيط من الخراب ، هو توطئة الخراب.
أكتب هذا الكلام فقط ليس لأنني أرى أملاً في المستقبل ، و لكنني أكتبه لكي أقول حقيقة، أن في كل ذكرى لدماء قد سُفكت يتوجب عليك أن تعلم أن هذا اليوم يجب أن يُذكر و يتم تدبره خير تدبر فقط من أجل أن لا تقع في شر مثل شر ذلك اليوم مرة أخرى ، ولا تقف في صف الذين وقفوا في الجانب الخاطئ ، بذلك لينتصرن الإنسان على دمه.
-
بهاء يوسف حجازيإنسان عربي