مالك بن نبي وإنتاج المستشرقين - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مالك بن نبي وإنتاج المستشرقين

  نشر في 17 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

كما يوجد متخصصون في الذرة و الإلكترون كذلك يوجد متخصصون في الصراع الفكري ,وكما توجد حرب أسلحة وذخائر توجد أيضا حرب أقلام وأحبار تسبقها بمراحل وتشرعنها وهي أشد وطئا من أي حرب حسية ,فمن يؤثر على أفكار الناس يستطيع بالبداهة السيطرة عليهم وعلى كل ما يملكونه ,وقد قسم المرحوم  - بإذن الله -  مالك بن نبي العوالم إلى ثلاثة ,وهي عالم الأشخاص وعالم الأشياء وعالم الأفكار ويرى أن عالم الأفكار أكثرهم ديمومة وبقاء وضرب مثالا بنشوء دولة الاسلام حيث أشيع في إحدى الغزوات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل , فجاء القرآن يقرع الصحابة ويقول لهم أن محمد ما هو إلا رسول قد خلت من قبله الرسل بهذه الآية يخرجون من عالم الأشخاص وهو شخص الرسول الى عالم الأفكار وهو ما جاء به الرسول,وقيمة أي مجتمع في نظره بعدد الأفكار التي ينتجها لا الأشياء والأشخاص ,وكان دائما ما ينتقد تكديس الأشياء التي اصبحت ظاهرة في العالم العربي والاسلامي والتركيز على بناء السكن لا الساكن في محاولة بائسة لبناء شبه حضارة ,ويكون تقدم أي مجتمع مرهون بحجم الأفكار التي ينتجها ,وهي من تنتج كل شيء ,كنموذجي المانيا واليابان حيث تدمر فيهم عالم الأشياء لكن الأفكار بقيت ,فعادوا كما كانوا ,وفي وقت وجيز ,وقد كتب مالك بن نبي كتيب لا يتجاوز خمسون صفحة مكثفة, كعادة جميع كتبه لخص فيه رأيه في أنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث وناقش موضوع الصراع الفكري الذي تسببوا فيه و أثره وظلاله على من تتلمذ على أيديهم من المسلمين وحذوا حذوهم ,و سأعرض بعض ما كتبه لضرورته القصوى في هذا المقال وقد بني الكتاب على قاعدة يعرفها متخصصو الصراع الفكري كما يعرفون أبنائهم ألا وهي :

( أن كل فراغ إيدلوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكارا منافية , معادية لنا )

لم يؤثر المنتقدون للحضارة الاسلامية كثيرا نظرا لعدم وجود الإستعداد النفسي بعكس طبقة المادحون الذين كان لهم الأثر الملموس في الفكر الاسلامي ,وكان لكتاباتهم وقع أكثر في تطور أفكارنا ,ففي المرحلة الأولى من الإستشراق كانوا يريدوا إستكشاف الحضارة الاسلامية بقصد إثراء حضارتهم أما في المرحلة الثانية الإستعمارية, فقد كانت بقصد إستكشاف ثقافتنا لا بقصد تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي يتناسب مع أطماع الأوربيين الإستعمارية للبلدان العربية والأسلامية وعند زحف الجحافل الإستعمارية أصاب كثير من المثقفين بالصدمة وشبه شلل في حصانتهم الثقافية وبعضهم من القى اسلحته في الميدان مبكرا ,كفلول جيش منهزم وسلك مسلك التقليد الأعمى للتعويض عن نقصه ومضى في رحلة البحث عن نجاته بالتقليد بالزي , و في كل حركاتهم وسكناتهم حتى لو كانت شكلية خالية من القيم الغربية الحقيقية .

يناقش بن نبي أدب الفخر والتمجيد الذي بدأ من بداية القرن التاسع عشر على أثر ما نشره مستشرقون كفكر يبحث عن حقنة إعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتا إشباع حالته المرضية ,وكذلك فيمن جاء ليعوض تخلفه العلمي بحقنة إعتزاز أخرى ,فقام يفتش في القرآن ما يوافق العلم الحديث ليكتفي بجهله ويغض بصره عن تخلفه العلمي المشين ,وعند طرح المسلم أي مشكلة من مشكلاته وقبل وصولها للمتخصصين لتحليلها يسابق المعامل الإستعماري بدراستها فإن كان بحثه صحيحا قللوا من شأنه وإن كان خاطئا زادوا في شحنة خطئة بطريقة أو بأخرى وهذه القاعدة العامة في الصراع الفكري ويذكر لنا قصة مضحكة مبكية حدثت إبان الإستعمار  ويقول :

أنعقد أخيرا بباريس مؤتمر العمال الجزائريين باروبا وبهده المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم بالخصوص في الجزائر البلد الذي اتخذ من كلمة (ديمقراطية) شعاره الدستوري .

لكن أصحاب الإخصاص في الصراع الفكري لم يمهلوا هذه المناسبة من اهتمامهم ولم يفتهم ما تقرر توزيعه ,ولكن كيف يسدون الذريعة أعني كيف يسدون الطريق على الافكار المعروضة في الكتيب الذي سيوزع أثناء المؤتمر حتى لا يصل مادها على رؤوس المؤتمرين أو على الأقل حتى يكون لها أقل مد ممكن ؟

وإذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية التي وضعت أسمها على ذلك الكتاب ذو العنوان الجذاب (شمس الله تشرق على الغرب) وفيه ما فيه من مدح وتمجيد للحضارة الاسلامية.

وتقدمت السيدة , وقدمت كتابها للمؤتمر  ,فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم إلى ابهة وأمجاد الماضي الخلاب . ولم يكن الصديق الذي ذكر لبن نبي تلك القصة على علم بموضوع الصراع الفكري وهو يقول : في الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة ,وتناسوا مشكلاتهم !

وهكذا يبقى الضمير الاسلامي في دوامة صراعه الباطن يسكنه أحيانا ما يكتبه المادحون ويثيره احيانا اخرى ما ينتجه المفندون ,وبالتالي يكون هذا الإنتاج مجرد تبذير وهدر لطاقات فكرية ثمينة لم يحسن استخدامها تدور في حلقة مفرغة.

يرى بن نبي أن نتاج المستشرقين بكلا نوعيه كان شرا على المجتمع الإسلامي لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواءا في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر واغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا وفي كلتا الحالتين تصب هذه الدراسات في روحنا حرمانا مزدوجا لا نستطيع التخلص منه إلا اذا ذكرنا السلم الذوي وضعه لنا النص القرآني الذي انطلقت بسببه الحضارة الاسلامية و الذي هيئ لنا المناخ العقلي بإحترام العلم وأهل التخصص فعندما سئل عمر عن الأب المذكور في القرآن وعمر ليس من أهل اللغة ولا من أهل التفسير فقال :  أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم .. وانصرف لعمله فقد أكد النص القرآني الفرق بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ,وافتتحت آياته بأقرأ ووضع مكانه للعلم والدليل العقلي فهيئ بذلك المناخ العقلي الذي يحترم العلماء وأهل التخصص .

يعترف بن نبي بوجوب إستخلاص موقفنا من إنتاج المستشرقين ,فنقول أولا أنه لا يمكن نكران قيمته العلمية , بل نراه أحيانا يستحق كل التقدير لما يتسم في بعض أصنافه بطابع أخلاقي ممتاز لا يمكن نكرانه كشهاده نزيهة من طرف شهود نعرف قيمتهم كعلماء ,ولكننا نغفل جانبا أساسيا في الموضوع إذا لم نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل في هذا القرن العشرين الخاضع لمقاييس الفاعلية لا يخلو من بعد عملي قد يستغل في ميدان السياسة والإنتفاع حيث تصبح الأفكار سواءا منها ما كان تافها مسخرة لتكون وسائل إفتضاض الضمائر والعقول وأن الكتب بغاليها وتافهها تقع بمجرد خروجها من الطبع و أحيانا دون أن يشعر أصحابها في إيدي اخصائيين يسخرونها في الصراع الفكري ,فيصيرونها ادوات للمشاغبة . ولكن هيهات أن يفقه هذا الحديث ( الفكر المتنور ) الذي يستمع لكم أنما على بصره لغشاوة فهو يتلقى أفكار الغير بكل تقدير ..أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره لا يمكنه على أي حال أن يصنع المنتجات الضرورية لإستهلاكه ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشييد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج وأن في تجربة كوبا أكبر دليل على ذلك فأنها تشق طريقها اليوم بالخبرة التي تكتسبها في التطبيق لا في الكتب وقد جاء في خطاب ديكارد المشهور :

"أنه لمن الممكن الوصول إلى معرفه تطبق تطبيقا نافعا في الحياة بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية ,وتعلم فلسفة تقبل التطبيق وتتيح لنا بعد معرفه تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية والسموات وكل الاجرام التي تحيطنا أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها "

ومنهج ديكارد هو من كون في أوربا المناخ العقلي التي تررع فيها العبقرية المصلحية الذي تتميز بها الحضارة الجديدة , فعلينا نحن أن نكتسب خبراتنا كذلك من خلال الأفكار القابلة للتطبيق و أن نحدد نحن موضوعات تأملنا والا نسلم بأن تحدد لنا وبكلمة علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية وإستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك إستقلالنا الإقتصادي والسياسي .


  • 3

   نشر في 17 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

آيــآ منذ 5 سنة
مقالة مكثفة و رائعة ، جوزيتم خيرا
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا