تسعون في المائة مما نقوله زائف إلى أبعد حد .. بما في ذلك ما نقوله لأنفسنا مبررين ضعفنا، كسلنا، أخطاءَنا .. وقبل كل شيء .. مبررين كل فشل يحيق بنا.
ما نقوله للآخرين .. زائف أغلبه .. حتى الصمت كثيراً ما يكون كذلك .. حين نصمت عن إبداء رأيٍ قد يصيب الآخر بالصدمة .. أو يسئ إليه أو يهينه.
منذ قليل كنت في مقهى .. عادة ما أتجنبه بسبب العاملات فيه، وكلهن شابات بين العشرين والثلاثين، فلهنَّ طرقٌ مختلفة في التعامل مع زبائن المكان .. يبتسمن للبعض ويقضبن الجبين للبعض الآخر .. ولكنهن، دون استثناء، لا يُـشعرن العميل .. أياَ كان .. بأنه مِنَ المرغوب فيهم .. حتى من وراء الابتسامة والترحيب.
وفيه، وبعد احتسائي لقدح القهوة الذي كنت في أشد الحاجة اليه .. كان عقلي منشغلاً في اختيار أنسب الردود .. وأكثرهم ألماً .. إن سولت نفس واحدة منهن في اختصاصي بمعاملة تخرج عن حدود ما يروق لي .. فوجدت أن أشد الحديث ألماً سيكون بقولي:
"انتبهي .. فأنتِ لا تحسني إليَّ بصدقةٍ .. بل أنا من أحسن إلى محلكم هذا بحضوري إليه .. ثم انظري إلى المرآة قليلاً لكي تعرفي كم أنتِ قبيحة من الداخل والخارج .. أيتها النحيفة الحدباء الجنائزية"
لم تتجرأ واحدة منهن على إظهار أي نوع من نقص اللباقة أو حسن الخدمة .. إلا أنهن لم يستطعن أن يغصبن أنفسهن على الابتسام .. فبلعت قهوتي .. ومعها .. بلعت ما اختارته نزعتي الشريرة في قول رأيٍ .. بعد أن نازع على طرف لساني.
نحن لا نقول ما نفكر فيه لمن يهمه الأمر .. فأنا لا اتجرأ أن أخبر عميلاً من عملائي بأنه "كاذب" أربعٍ وعشرين ساعة في اليوم .. ولا أقدر أن افصح لإحدى الزميلات أن عليها أن تنتبه لأنفها المرفوع نحو السماء لأنها في الواقع .. ليست "جاهلة" فحسب .. بل لا تتعلم بسهولة .. ولنقل أنها غبية حمقاء .. ولا أجد الشجاعة لإرسال نصف دستةٍ من البشر إلى الجحيم بقول واحد.
لا أعتقد أن أياً منا لم يمر بمواقف مشابهة .. الزوجة التي تود من كل قلبها أن تقول لزوجها: "لم أعد أتحمل تهاونك وعدم اكتراثك .. وثرثرتك عن صفات تنسبها لنفسك وأنت أكثر الناس بعداً عنها .. لم أعد أتحمل قلة ذوقك وغضاضة أفعالك" .. والابن الذي يكظم غيظه أمام تباهي الوالدين بما يعلم أنه افتراء ونسج خيال.
يقول أطباء النفس .. أن هناك ما يسمى "الصرخة المحررة" .. و"السلوك المحرر" .. و"الحديث المحرر". بالأمس، في شوارع بولونيا .. المدينة الايطالية .. قبض رجال الشرطة على فتاة في السادسة والعشرين من عمرها .. جميلة باهرة .. تسير عارية تماماً .. تماماً .. وحـُررت لها مخالفة قيمتها ثلاثة آلاف يورو، أما عن السبب .. فقد قالت بكل ارتياح .. أنها فعلت ما أشار به عليها طبيبها النفسي لكي تتحرر من عقدة الخوف .. ولكي تبدأ في الشعور بالجرأة والشجاعة.
ماذا لو أننا، دون أن ننتظر طبيبنا النفسي، نقرر أن نطلق تلك "الصرخة المحررة" .. الصرخة التي تحررنا من بعضٍ مما نكتمه في الصدور ونكتمه مراراً وتكراراً؟ .. ماذا لو استيقظنا بنيةِ قولِ ما نشعر به في أعماق أنفسنا .. لصاحب العمل .. أو لجارنا .. أو لواحد مما نعدهم أصدقاءً .. أو .. لمن يعيش معنا تحت سقف واحد؟
-
كريم السعيديكاتب عربي
التعليقات
ما كنت تود قوله للنادلات.. سيضعك في مصاف معهن.. ولن يغير سلوكهن..
تريد فقط أن تخبرهن لمجرد أن تتحرر من الضيق الذي يسببنه لك؟؟ كما ذكرت" نفسك الشريرة.".. برأيى أن التجاهل لمثل تصرفاتهم هو الرد الراقي والمناسب.. خاصة أنهن لا يتعمدن فعل ذلك ولكنها على ما يبدو طبيعتهن.
غريب أمر هذا المقهى أين كان عقل صاحبه عندما اختارهن للعمل به ولماذا لا يتابعهم؟
فكيف لنا ان نكون صادقين ..
ولو عبرنا عما بداخلنا لما بقي شخص من حولنا ..
من الصعب قولها ..
أبدعت حقا في مقالك ..
في منتهى الروعة ..♡