بيت فؤاد ٧
الرحيل مؤلم وخاصة عندما يكون دون وداع، فحتى لو كان غيابك غير مبرر اقنع من ترحل عنه بأي حجة حتى لا يقتله ظنه مع البعد!
نشر في 31 يوليوز 2018 .
في آخر مرة حضرت فيها أمسية ل"فؤاد" شعرت بأنني أحضر حفلة مسجلة لشخص قد رحل حقاً عن الحياة تماماً كما تحضر حفلات لعبد الحليم وأم كلثوم، تسمتع إليهم وتراهم وهم ما يزالون على قيد الحياة يمارسون الحياة .. إن كان يفي التعبير بما أود قوله.
"فؤاد" الثلاثيني كان يبدو في العقد الخامس من عمره، جبهته التي كانت تتصبب عرقاً ووجه الشاحب، ويداه اللاتان كانتا ترتجفان مع رجفة ريشته على العود، كانت موسيقاه حزينة، وكانت قصصه مؤلمة، وعندما ودعنا عند انتهاء الأمسية كان يشد على أيدينا بكل قوته، كأنه كان يتوقع ألا يرانا بعدها.
أن تكون تحتضر، ماهو شعورك في هذه اللحظات، هل تفكر ربما بالعودة أو بالمجهول الذي ينتظرك؟! ..
" في كل مرة يبلغ فيها ألمي حده، أغمض عيني وأتخيل نفسي وأنا على المسرح أعزف.".
قالها وشعرت بأنها يخفي شيئاً آخر كان يود أن يقوله لكنه فضل أن يأخذه معه إلى عتمة رحيله.
ذلك الاتصال الذي انتظرته وانتظره "فؤاد" ولم يحصل، هل كان قدومها سيغير من ملامح موته، هل كان حقاً ما يخفف عنه ألمه هو بتخيل نفسه وهو على المسرح أم يتخيل نفسه وهو يعزف لها .. هي التي رحلت ولم تتصل!
" منذ اللحظة التي استيقظت فيها ووجدتك وقد رحلت، لم يعد شيء في هذه الحياة يعنيني . كانت الحياة كما الموت .. كابرت كثيراً على نفسي بأنني سأنساك، بأنني سأقابل أنثى أخرى وأحبها، لكنني في كل أنثى كنت أقابلها كنت أحبك أنت".
قال لي غاضباً ذات يوم وهو يتقيأ دماً :" يستحضرني في هذه اللحظة ألف خاطر بأن اقتل نفسي لأتخلص من وجعي". أمسكت يده والدموع تكاد تطفو من عيوني عندما رفع نظره إلي وقال لي :" لا تدع الحسرة تقتلك، لا ترحل دون أن تودع، وعندما تشعر بأنك لست بخير لا تقاوم الألم .. فالألم الحقيقي لا يقاوم"!.
لم أفهم يومها ما عناه، حتى قرأت في أحد مذكراته التي تعود إلى عام مضى، بأنه كان يعرف بأنه مصاب بالسرطان قبل أن يسقط وينقلوه إلى المشفى، لكنه لم يكن يريد من أحد أن يشفق على "فؤاد" أيقونة الحياة والسعادة كما وصف نفسه ..
"لو أنني قابلتها لم أكن لأقول لها بعد كل هذا أنني أحتضر، أن السرطان يأكل جسدي بعد أن أكل رحيلها روحي وقلبي .. جمعتنا صدفة لعينة عند باب المشفى كانت تحضر ولادة شقيقتها في اللحظة التي استلمت فيها نتيجة التحليل، شعرت بأنني أكاد أسقط أمامها، كنت في تلك اللحظة أحتاج أن أضمها وأبكي، أن أقول لها بأنني أموت .. لكنها كانت لتحزن، كانت لتقرر أن تمضي معي في سبيلي فقط شفقة، وإن كنت أردت شيئاً من هذه الحياة كانت رؤية عيناها تقول لي "أحبك" لأنها تحبني شغفاً وليس شفقة".
- يتبع -