الجـانــي بــلا تـهمــة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الجـانــي بــلا تـهمــة

فلا هو يقصد إغراقك، ولا أنت تستطيع إيقافه، أنت الضحية بلا سبب، وهو الجاني بلا تهمة»

  نشر في 01 يوليوز 2018 .

نبدو في بعض الأحيان، خاصة مع بداية الحكايات مندفعين؛ كلهفةِ الغريق للإمساك بطرفي السفينة؛ حين تُلوح خيوطٌ لا نعتقدها سرابًا أول الأمر، إلى أن تقذفنا الأمواجُ إلى عميق البحر، حينها سنكتشف أنّنا كنُّا نُعاني من حرارة الشمس على الشطّ فقط قبل أن نندفع دون وعيٍ إلى حَوَافّ المركب التي تجرفنا بدورها إلى العمق، فلا نستطيع إحكام قبضتنا، كما لا نستطيع القفز إلى داخل المركب مع شدة التيار؛ فنصارع الموت بقلب البحر.

حرارةُ الشمسِ التي اعتقدنا أنَّها «الضارية» تبدو أهونُ من «صراع الموت» وسط المجهول.. ذلك عمقُ أغلب قصص حياتنا، بحلوها ومُرها، بعمقها وسطحها، بفرحها وحزنها.

المفارقةُ السابقة ربما تدفع بأغلبنا إلى تفضيل الانعزال على السير مع التيار الذي يلوحُ في الأفق، حصافة البعض تساعده على اكتشاف «الفخ» - إن صح التعبير - بينما قليلو الخبرة في الحياة ينجرفون إلى العمق المميت.

هذه كانت نصيحة العجوز الذي أسند ظهره إلى أريكة على شطّ البحر يقدّم روشتة من نصائحه إلى شابٍ في متوسط العمر، ومتوسط الخبرة، تجعله مشتت الزهن، حين يحتارُ ما بين أن يستجيب لرغبته المُشجِّعة على الإلقاء بجسمه الثقيل إلى البحر؛ للسباحة مع التيار أم يكتفي من متعة المياه بالمشاهدة من أريكته بجوار العجوز الذي يحكي تجاربه مع الحياة؟.

أتعلم يا ولدي كم غريقًا ابتلعه البحر بعدما وضع نصيحتي على ظهر يديه وهو يسرع للتجديف، كان هنُا مكانك على أريكته، برغم كثرتهم يا ولدي ما انفك البحر يشبع.

بتنهيده الواثق من خطواته اعتدل الشاب على أريكته، وهو يُحدّقُ في ملامح وجه العجوز، رسمت تجاعيده ملامح الحياة التي تعطي أحيانًا وتمنع أحيانا أخرى: أتعرفُ يا عمي أنَّ كلَّ ما ذكرتَ لا يعنيني بشيء، لأنني أعرف جيدًا متى أُجدّفُ، ومتى أتوقف عن مصارعة التيار، لكن أتعرف حقًا متى أخاف؟ حين أمتلك قوة التجديف ومهارة السباحة وتتصلب أربطة رجلي حين تشد عضلاتي بالتشنج، هذا فقط ما يكون خارج إرادتي.

بضحكة المعجبُ بما توصل إليه الشاب، التفت العجوز إلى هذا الواثق في كلامه قائلاً: صُبّ لعمك التاريخ القهوة يا فتى واسمعني: «يعجبني ما توصلت إليه من حصافة الذهن، وعمق التفكير، وبراعة الاستلال والاستنتاج معًا، لكنّك نسيت أن ما تسميه «الشدَّ العضلي» وسط البحر، الخارج عن الإرداة، هو هذا الموج الذي يصفعك على وجهك في قلب البحر، فلا هو يقصد إغراقك، ولا أنت تستطيع إيقافه، أنت الضحية بلا سبب، وهو الجاني بلا تهمة».

جميلٌ طعمها، صُبّ قهوةً أخرى: أنا معجبٌ بشجاعتك، لكن أتعرفُ أنّ أغلب الغارقين هم الشجعان، أتعرف أنّ جميعهم لم يتوقف بُرهة أمام الشطّ لسؤال نفسه: هل السباحة الآن القرارُ الأصوب، كانوا شجعانًا نعم، لكنّهم غيّبوا صوت العقل، القوة وحدها لا تمنحك الحياة يا ولدي.

من صنع هذه القهوة، إنها تفهم الحياة بالطبع، قطعًا إنها والدتك العجوز، التي أُشربت من الزمن خبراته، إنها بدت لي على وجه الفنجان، أو ما تسمونه «وش القهوة»، ذاك خبرة الوالدة يا فتى، اشرب قهوتها.

علاما كنّا نتحدث؟، نعم عن الشجعان، والغارقين، والجناة، والسفينة، والبحر، هذه تفاصيل القصة برمتها يا فتى، إنها خمسة أبواب للحياة، شجاعٌ يلتقطُ طرف السفينةِ إلى عمق البحر، إما النجاة أو الغرق، وآخر يستكين إلى أريكته منعزلاً على هذا الشطّ.. سأكون معجبًا بقرارك أيًا كان نوعه، لكنّ عليك ألا تدين القاتل كما أخبرتك آنفًا، فالبحر هو «الجاني بلا تهمة».

*محمود غريب

كاتب مصري


  • 6

   نشر في 01 يوليوز 2018 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 5 سنة
ومن يستطيع أن يجابه أو يتهم البحر ،أخذ الكثيرين و لم ينقص حب الناس له، صدق العجوز الحكيم ، قصة جميلة جدا ،دام قلمك أستاذ ،تحياتي.
1
محمود غريب
تحياتي لحضرتك.. مرورك أسعدني
تحية تقدير لك سيدي
أسلوب راق جدا..اعدته مرتين لأقرأ خلف السطور فوجدت أنك تقول :
لكنّ عليك ألا تدين القاتل كما أخبرتك آنفًا، فالبحر هو «الجاني بلا تهمة».
هل يجوز ان نعتبر من تنصحه بكلامك جاني في بعض قضايا الاجرام خاصة حينما يرمي بنفسه في البحر؟ بسبب ظروف و أسباب ...البحر مسرح جريمة بريء جدا لأنه من الطبيعة و الطبيعة قد تكون حاضن أمين و قد تكون حاضن غادر..لست أعرف سيدي لما تدافع عن البحر و هو من فتح بابه للاجرام الفسيح و بغير حدود..هو من يحمل سفن الهجرة و سفن الموت فكيف لا تضعه في خانة الاتهام الواضح و كيف تبرىء من ركب سفينة الموت بغير قوة ايمان ؟ ..فلو توكل على الله لرسى بامان مثل ما رسى سيدنا موسى في قصر فرعون...هنا قد لا انصف كلامك و اقول : لا تتهم البحر لأنه ليس جانيا ولو بتهمة.
راق جدا أسلوبك و عميقة جدا كلماتك ..مع الشكر الموصول لكم.
دمتم بخير
1
محمود غريب
مرورك أسعدني للغاية دكتورة.. دمتِ بخير
آلاء بوبلي منذ 5 سنة
مبدع
0
محمود غريب
مرورك أسعدني.. أشكرك

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا