الحمامة التي علمتني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الحمامة التي علمتني

هل جربت التيه يوما؟

  نشر في 11 أكتوبر 2021 .

تأتي على الإنسان فترات في حياته يكون اشبه فيها بمن هو تائه في الصحراء، يختار طريقا ليسير فيها وكله أمل في أن يجد تلك الواحة الخضراء المليئة أشجارها بما طاب من الثمار والرطب والصافية مياه بحيراتها للعطشى من عبار السبيل، إلا ان الطريق التي اختارها لا تؤدي به الى الواحة، بل يجد أمامه كتبان رمال جديدة يجب تسلقها. يعيد الكرة تلو الأخرى، لا شيء يبقى على حاله سوى الرمال الغير متناهية أما جهده وقواه فقد ذهبا. يحاول ويحاول وفي كل محاولة ينقص رصيد الأمل لديه. الصعب في الامر هو كون الشخص يحس بأنه شارف على الوصول إلى حدود مقاومته، والمرعب في الامر هو ذلك السؤال الذي يبدأ عقله الواعي بطرحه وهو كيف سأكمل بعد أن أفقد آخر جرعة أمل؟. بالنسبة لي لم تكن السنوات التي قضيتها في الصحراء قاسية لأني لم أحس بطولها أو بصعوبتها كان تركيزي كله على الأفق لعلي ألمح لونا أخضر. الأقسى كان يوم فقدت آخر جرعة أمل وتوقفت عن المضي، الأقسى هو يوم نسيت ذلك الحلم، يوم اختفت صورة الواحة من مخيلتي، يوم جلست على الرمال الصفراء وقررت أن أمضي بعضا من الوقت في مكان اخترته ليس لجماله بل فقط لما كان يوفره من ظل كئيب. تشابهت أيامي بعد ذلك، ويوما بعد يوم اختفت رغبتي في الوصول إلى الواحة الخضراء.

قضيت ايامي تباعا بين استلقاء ونوم وتصفح للسماء ممررة أصبعي يمنة ويسرة بين سحب سوداء وطيور مزركشة أو مشاهدة لقصة حب رومانسية بين حشرتين. كانت هذه حياتي في المجمل في تلك السنين. لم أكن سعيدة بها فخيال الواحة كان يراودني بين الفينة والأخرى خصوصا عندما كنت أرى حمامة تطير وسط الشمس الحارقة أراها تقاوم لأنها تحاول الوصول إلى ذلك المكان الذي ترتاح فيه ولن تقف حتى تصل. أحسدها؟، لا، ولكن أتمنى لو كنت مثلها أتمنى لو كنت قوية أكثر.

لن أنكر أنني أحسست ببعض من الراحة في تلك الفترة فقد ساعدني ركودي الدائم على التخلص من آثار طول المسير من قبل. الأشهر الأولى من الراحة كانت جميلة، لكني كنت أحس باكتئاب كلما تذكرت الواحة الخضراء فأبدأ بالبكاء وكنت أحس بامتعاض وسخط شديدين كلما رفعت رأسي إلى السماء ورأيت الحمامة لازالت تطير وعنقها ممتد إلى الأمام كنوع من التأهب والصمود. بدأت تزعجني هاته الأفكار وتنكد علي فرحي براحتي فقررت أن أضع لها حدا. الأرزاق تختلف والله قسم الأرزاق بين العباد والله لا يحمل نفسا إلا وسعها وقوى البشر لا تتشابه فمنهم الضعيف ومنهم القوي، كلمات اختبأت خلفها لأريح ضميري، كلمات كانت ككمادات ثلج يضعها المجروح على جرحه لتخفف ألمه كانت مسكنات أهرب بها من الواقع إلى المتعة، أستيقظ صباح اليوم التالي لأجد الواقع وتختفي المتعة.

علاقتي بالله خلال هاته الفترة كانت شبه منعدمة، فبالرغم من الفراغ الذي كنت أعيشه طول اليوم إلا أن ذكره لم يكن يجول بخاطري، فقد كنت مشغولة بتلك الحرب المشتعلة بداخلي بين عقل ألف الراحة والسكون وبين قلب تعب من الحزن وجلد الذات المستمر. توالت الأيام تباعا كلها متشابهة. مللت من الراحة، مللت من مشاهدة السحب والسماء فقد حفظت أشكالها عن ظهر قلب، مللت من ذلك الإحساس بداخلي بأني غير مهمة في الوجود وبأن وجودي من عدمه سيان أذكر أنني قضيت فترة طويلة لا أكف فيها عن البكاء، بكاء على حال لم أعد أعرف السبيل للخروج منه. اشتقت لأن أتعب.

كانت فترة تأمل، تأملت في نفسي، أعدت شريط رحلتي الأولى سألت نفسي عن السبب الذي جعلني أيأس وأتوقف هل كان التسرع، هل كان فقدان الأمل، وجدت الجواب عند الحمامة الطائرة.

عندما كنت أراقب الحمامة وهي تطير، كنت أراها في كل مرة تنزل إلى الأرض، تأكل قليلا مما تجده، فتجلس بعد ذلك مغمضة عيناها كأنها نائمة تظل على هذه الحال مدة من الزمن فتفتح عينيها وتبدأ في نتف ريشها محاولة إخراج ما دخل فيه من أغصان صغيرة وحبوب رمل رقيقة تنهي العملية فتطير مجددا نحو وجهتها. الحمامة فعلت ما لم أكن أفعله أنا خلال رحلتي، الحمامة كانت تهتم بنفسها ولم يلهها حلمها قط عن حبها لنفسها أولا.

دعوت الله وأنا المنقطعة عنه لفترة، دعوته في صحرائه، دعوته وسط التيه، أدبني ولم يكن قبوله لي بالسهل أبدا فقد أعرضت عنه لفترة وحق في حقي الإعراض كذلك، غير أنه كان أكثر نبلا وسماحة في إعراضه سبحانه، قبل توبتي وصدق رغبتي في التغير ومسح على رأسي مسحة الأب على رأس طفله العاصي بعد اعترافه بخطئه. جمعت الرحال وعزمت العودة إلى الطريق لكني في هذه المرة حملت زادا قيما، ثقتي في الله وعونه، ثقتي في نفسي وحبها وأخيرا مرآة أرى فيها أخطائي وأصلحها.   



   نشر في 11 أكتوبر 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا