سيظل أبي...
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. }
نشر في 23 غشت 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ها نحن ذا في باحة المشفى، أنظر إليه ولا أكاد أكلمه، وكأني أفقد لغتي عند كل محاولة لي للحديث، أما هو فلا يبالي بوجودي أصلا، كأني صنم في الجوار، جل انتباهه موجه صوب المارة والغرباء الوافدين على المشفى من هنا وهناك لزيارة أقربائهم... كلما اقتربت منه ابتعد، وكلما حاولت مخاطبته نظر إلي منفعلا :''ابتعدي أيتها الغريبة!''... أسر ذلك في نفسي ثم أعاود الاقتراب منه، وبابتسامة عريضة تخفي حقيقة الألم الذي أكابده، و بعينين ممتلئتين أملا أسأله: '' أبي، أنظر إلي.. ألا تتذكرني؟'' يلتفت إلي، يتعقب تفاصيل وجهي جيدا ثم يجيب: "أهذه أنت فاطمة؟... (في تذمر)اوووه لقد تأخرت عني كثيرا ! ألن نزور عمك باامحمد لقد سمعت أن حالته الصحية قد تدهورت مؤخرا، المسكين لم تمنحه الحياة فرصة الفرح بحفيده الأول حتى وجد نفسه طريح الفراش يصارع الموت... كنت طيلة حديثه أنصت إليه في حزن، أحدق إلى وجهه الشاحب تارة و تارة أخرى أتساءل في نفسي: كيف للذي كان لايكف عن الاهتمام بجل أموري، الذي كان يمضي الليالي الطوال سهران حتى أحظى بنوم هنيئ ، الذي باع الغالي والنفيس تلبية لرغباتي وتطلعاتي، كيف لهذا الشخص أن ينسى فلذة كبده، قطعة من روحه، ابنته التي صار اليوم يناديها باسم والدتها المتوفية منذ زمن بعيد!! ...
آهٍ !كم أنت قاسية أيتها الحياة، تتلاعبين بنا يمينا شمال، تجعليننا نفني كل شبابنا في خوض معاركك الواهية، ومن تم تلقي بنا ،عجائز، أسرى لماض بعيد، متشبتين بذكريات فنت، تلاشت ووفاةَ من شاركونا إياها!
هذا واقع أبي اليوم. رجل مسن، خرت قواه، واشتعل رأسه شيبا،وأصبح كالطفل الصغير تلزمه عنايه دائمة ورقابة مشددة حتى لايخطئ التصرف. هكذا إذن هي أحوال جميع مرضى آلزهايمر، ذاك المرض المزمن الذي تبدأ شرارته بأعراض بسيطة كنسيان الأسماء والمواعيد.. ثم يتطور شيئا فشيئا ليصبح فقدانا تاما للذاكرة حيث يصبح المريض عاجزا عن القيام بشتى الأمور الأساسية في حياته كالأكل و اللبس وغيرها، مما يصيبه بنوبات من الغضب والإحباط الشديدين.
إنها المرحلة التي صارت عليها أوضاع والدي مؤخرا، حتى أنه صار يعنفني إن أصررت على مساعدته في فك أزرار قميصه، أو ارتداء جواربه، ظنا منه أني أحط من شأنه وأخدش كبرياءه، هوالذي كان فيما مضى أكثر الناس حرصا على هندامه، أكثرهم تنظيما و إلماما بشؤون المنزل حتى أنه كان يتقن فن الطبخ، فيعد أشهى الأطباق و أطيبها... إلا أنه اليوم أصبح عكس ذلك تماما ،غير قادر حتى على تناول كوب بيده، أو التقاط ملعقة...
كانت حالته تزداد كل يوم سوء، مما جعل الطبيب يقترح علي إبقاءه في المشفى حتى يتلقى الرعاية اللازمة، وأحظى بدوري ببعض الوقت لتدبير أموري و الحفاظ على عملي الذي كنا نسترزق منه أنا ووالدي، فلولا تلك الأجرة البسيطة وبعض المال الذي يرسله إخوتي كمعونة أول كل شهر ما استطعت تدبر تكاليف المشفى و الدواء، لكن الله يجعل في كل قرش بركة فحمدا لله على ذلك.
كنا فيما مضى أسرة صغيرة، توفيت والدتي وأنا في ربيعي الأول، لاأذكر ملامحها جيدا لكن أبي اعتاد أن يقول لي: "كلما اشتقت إلى أمك نظرت إلى وجهك البريء". حسب قوله، كنت أشبهها كثيرا لعله السبب الذي جعله اليوم بناديني باسمها ويحاكيني بذكريات جمعتهما معا لم أكن لأعلم عنها قط. لي أخوان يعيشان في بلاد الغرب، استقرا هناك منذ زمن وأسسا أسرتيهما هناك، لم يأتيا يوما لزيارتنا بل يكتفيان ببعث تلك البركة الشهرية ورسالة اطمئنان مرافقة. اعتاد والدي بالأعياد والمناسبات أن يجالس باب الدار منتظرا قدوم أحدهما، كانت أمنيته الوحيدة أنذاك، قبل أن يفتك المرض خلايا عقله، أن يرى أبناءه ملتفين حوله، أن يلاعب أحفاده ويأخذهم في حضنه ... كان يظل النهار مترقبا والليل داعيا وعندما يفقد الأمل يعود إلي خائبا فيحتضنني بقوة وكأني أولاده الثلاثة مجتمعين في جسد واحد، فيقول لي بحب: "بوركت لأنك ولدت، وتعالى القدير الذي أتى بك إلى حضن هذا العبد الضعيف، لقد كنت يا ابنتي خير سند لي بعد رحيل والدتك، وهجرت أخويك ..." ثم يمسك يدي بلطف مقبلا إياها، متمما: .." وأنا على يقين أن هاتين اليدين الناعمتين هما اللتان ستحملاني يوم تخونني قدماي، وتربتان علي حتى تنسينني هرمي، ومن تم تعدان لي أشهى الحلويات وألذها (ضاحكا)."
كانت نفسه حلوة مرحة وكنا نقضي سويا أروع الأوقات، لم أكن أحتاج لرفقاء في الحياة، كنا نكتفي ببعضناالبعض، حتى أني بعد مرضه قررت ترك العمل لأخصص له كل وقتي وجهدي للعناية به لرد جميل الخمسة والعشرين سنة اللواتي قضاهن نحوي ،إلا أني لم أجرؤ على تنفيذ هذا القرار نظرا لكثرة المصاريف و استجابة لمستلزمات الحياة الضرورية ، مما دفعني إلى نقله للمشفى مضطرة غير مخيرة، كما أن تقدم المرض و انتقاله إلى درجات أكثر صعوبة كان يحثني على ذلك.
في كل مرة كنت أزوره فيها، كان ينشر ماضيه نصب أسماعي، أناس توفوا قبل ثلاثين سنة، لازال يزعم وجودهم،لازال يسأل إن كانوا قد مروا للاطمئنان عن حاله أم أنهم لم يفعلوا وكنت أنا أجاريه في حديثه لا أجرؤ على مناقشته أو جداله خوفا من غضبه و تعكر مزاجه. نهايات الأسبوع كان يقضيها رفقتي بالمنزل، نعد الطعام الذي يفضل، نشاهد الأفلام التاريخية التي يحب، كان ذلك يسره كثيرا ويخفف من احباطه كما كان ذلك يسعدني أيضا و يخفف من أوجاعي.. فرؤيته إلى جانبي، وتنسم عطر أنفاسه، وتحسس نبض قلبه .. كل ذلك يضفي على قلبي راحة و يغمرني طمأنينة، فوجوده هنا يكفيني و إن صار عاجزا عن تذكري و إن صرت بالنسبة إليه شخصا غريبا كباقي الغرباء حوله، سيظل أبي... تلك الحقيقة التي لن يغيرها المرض أو القدر ، سيظل مصدر سعادتي ، إكسير الحياة الذي أستمد منه قواي، ذلك النور الساطع الذي يضيء دربي والنبع الذي أرتوي منه حبا و حنانا...
فيا كريما في عنان السماء ويا مجيب دعاء عبادك الضعفاء، اللهم اجعل والدي ممن تقول له النار : أعبر فإن نورك أطفأ نــاري ،وتقول له الجنة أقبل فقد اشتقت إليك قبل ان أراك، اللهم آمين يا رب العالمين.
النهاية.
سلمى أشهبار
-
Salma Achehbarبصدد البحث عن حقيقة هويتي ...