تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة ! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة !

  نشر في 31 يوليوز 2016 .

أتسكّع صباحا بعقل مبعثر على الإسفلت المتعب من الروتينيات و أراقب من بعيد الضوء الأخضر الذي يجعل السيارات جامحة كما لو كانت محرّكاتها مصابة بجنون البقر ..و أتنفس هواء القرن الحادي و العشرين بنزق دون أن أملأ فجوات دماغي بجدلية الاحتباس الحراري و اتساع ثقب الأوزون و انتهائنا من جراء اختراق أشعّة الشمس لغلافنا الجوي كديك رومي في حفلة شواء بدائية ..

إنني في كل مرة أمشي فوق الرّصيف أرى بالشارع انسدادا في الشريان المروريّ و إفرازات بشرية متضخمة من الأدرينالين تجعلني أتخيّل الشاعر الفلورنسي " دانتي " مكان رجل المرور و هو يلوّح بيديه بسخرية ليقول جملته الشهيرة " أيها الداخلون .. أتركوا وراءكم كل أمل في النجاة "

إن الكل يبدو مُستعجلا و خطواتهم بعكس المساء غير منتظمة ، إنهم يبدون كما لو أنهم في مهمة عظيمة لكن نظراتهم فارغة و لا وقت لأحدهم في الإبتسام للآخر .. إنّ الإبتسام صباحا ترف معنويّ !

إنّ من ينظر من فوق للآلاف من البشر كلّ يوم بتيليسكوب محايد سيسحق من تحت قدميه كل وجود احتماليّ للعبثية و سيستطيع أن يبصق من كتب التاريخ أسطورة تنتالوس أو سيزيف .. فهؤلاء رفعوا راية العبثية في وضح النهار أمّا نحن فعبثيون مراوغون في الظلام ، نمارس طقوس العيش بفوضوية و نتمسّك بأسباب الحياة و نتخبّط في هذه الحياة خبط الناقة العمياء ..

إنّنا نبدأ سنوات عمرنا الأولى و لكلّ شيء من حولنا هالة تستحق الدهشة ، الأصوات الغريبة و ملمس الأشياء و أسمائها ، إنّي لا زلت لليوم أتذكر حين أصبت بعمى الإحساس حين عرفت أن هناك قارات مملوءة بالبشر من حولنا و أننا معلّقون بقدرة قادر في الفضاء ..حتى أني لا زلت أذكر أنني أصبت بحالة اكتئاب سطحية جعلتني أفوّت درس النعث و المنعوث و أقف في استراحة المدرسة أتوسّل لصديقاتي كي لا يركضن حتى لا يكون ذلك سببا في جعل الأرض أثقل مما هي عليه فتهوي بنا و نتحطّم ..

الآن و أنا في الحادية و العشرين أستطيع أن أنشغل بكل التفاهات الممكنة دون أن أتسائل كيف يمكن لسفينة تزن أطنانا أن لا تهوي بثقلها في قاع المحيط و لا كيف لطائرة أن تحلّق بكلّ هدوء دون أن تسقط أشلاء و تتحطّم بالسريع ، إنّ في أغلب السيارات الحديثة برنامجا لتحديد المواقع عالميا أو ما يسمى اختصارا بـ " جي بي إس " ، نستطيع أن نشغله و نستمع لتوجيهات السيدة الآلية به دون أن تأخذنا الدّهشة من ذلك القمر الإصطناعي المعلّق في الفضاء الخارجي و الذي يعمل عن طريقه ، نحن لا نتسائل كيف يمكن أن يكون جسم ضخم كذلك مثبثا بالفضاء بطريقة مماثلة ..

لا تأخذنا الحيرة كيف يحصل أن نسمع صوت أحدهم بالهاتف و لا كيف يمكننا رؤية أحدهم في الشق الجنوبي من الكرة الأرضية عبر شاشة صغيرة تسمى كاميرا أو قُمرة كما أطلق عليها الرائع ابن الهيثم .. فيطل علينا منها مخاطبنا و من وراءه شمس الظهيرة و بالوقت ذاته نطل من نوافذنا فلا نجد غير السماء مملوءة بالنجوم المضيئة ..

إننا توقّفنا عن الدهشة حين كبرنا ..إننا توقّفنا عنها في اللحظة التي نضجت خلايانا الرمادية و صارت مستعدة للتحليل المُمنطق و التساؤل الممنهج الذي يمنح الأشياء قيمتها ..، إنّ قيمة الأشياء عندنا حفنة أوراق مالية لا غير ..

إننا قد نندهش من ثمنها أو شكلها أو فعاليتها أو حتى اسمها لكننا لا نندهش أبدا من سرّ عمل الأشياء ، صارت الإختراعات العظيمة استهلاكية تُعمي الإنسان فيصير سطحيا لا يعبث بكنه الأشياء .. حتى صار كل شيء ممكنا دون أن يكون معنا جواب بسيط لكلّ ذلك ..

إن عباس ابن فرناس نعثوه بالهرطقة حين فكر في الطّيران و جاء " الأخوان رايت " يحاولان ذلك فاتّهما بالجنون و ملأهما الناس بتعليقاتهم الساخرة و لو كنا بذلك الزمن لما اختلف رأينا كثيرا عن هؤلاء .. كنا سنرى الأمر معجزة حقيقية ..

ثم إني لا أتحدّث هنا عن أهمّية الحلم بقدر ما أتحدث عن كابوس العدم ، فالآلاف إن لم أقل الملايين بزماننا هذا لا تستغرب أن تحلّق طائرة في الهواء رغم أنها لا تستطيع منحك مذكرة مختصرة بالأسباب التي تجعل هذه الطائرة معلّقة في السماء بثقة ، الكلّ يضحك حين يشاهد عجوزا تستغرب أمر الهاتف المحمول حين تراه أول مرة و تبحث عن مصدر الصوت فيجعل من استغرابها ذلك نكثة دون أن تكون له يد أو مكنة ليفهم هو الآخر كيف يأتيه ذلك الصوت بشكل علميّ ..

فنحن بالحقيقة متحذلقون رغم أننا من الداخل من دون هذه التكنولوجيا عاجزون .. إننا نتعامل مع الآلات بإقطاعية لا تليق بقيمتها بقدر ما تليق بقيمتنا التي فقدت معاني الحياة ..

وما لنا الا ان نقول في صمت وذهول ..تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة !


  • 11

   نشر في 31 يوليوز 2016 .

التعليقات

في منتهى الجمال ..
تعجبني طريقتك في انتقاء الكلمات ..
و تسلسل الاحداث ..
انت حقا رائعة .. و كتاباتك مميزة
0
حنين ذكرى منذ 8 سنة
كلمات جد جد جد جمييلة...
تهت في حروفك يا فتاة..
إني أرى شغفك الأدبي يؤتي أكله كل حين..فأشرقت كلماتك بنور ربها..
الموضوع المطروح جميل جدا.. و مؤثر.. و لكن الأجمل منه قطعا هو انثناءات حروفك الفاتنة..
دمت متألقة.. ودام قلمك نابضا بالحرف..
إني أعلن عشقي للملكة حرفك.. تحياتي^^
1
السعدية بن التيس ( صحيفتك فملأها بما شئت )
اهلا بعشق الحروف لملاك الحرف .. التفاتة مستنيرة اشكر كرمك الادبي
عمرو يسري منذ 8 سنة
فعلا لقد فقدنا الإحساس بالحياة عندما فقدنا القدرة على الدهشة و الإنبهار و أخضعنا كل شيء للعقل و المنطق , فأصبحت الحياة مملة رتيبة بالنسبة لنا .
مقال رائع .
1
السعدية بن التيس ( صحيفتك فملأها بما شئت )

إننا مصابين بفقد شهية مزمن .. ربما هي الأنوريكسي و نحن لا نعلم !
بارك الله فيك اخي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا